القاهرة | المشهد الذي عرفته أخيراً قاعة المؤتمرات في «المجلس الأعلى للثقافة» خلال أولى جلسات «حقوق وحريات الفكر والإبداع... تحديات الثورة والمستقبل» كان جديداً تماماً. بينما اعتاد المثقفون على مؤتمرات مغلقة يخاطبون فيها أنفسهم، ها هم يجدون حضوراً مكثفاً من الاسلاميين الذين لم يأتوا للمناقشة بقدر ما جاءوا لإحداث بلبلة وفوضى في قاعات المؤتمر الذي شهد هتافات من نوعية «يسقط حكم المرشد» لمواجهة هذا الحضور. الهتافات عكست مخاوف يعيشها مثقفون مصريون دفعتهم اللحظة الراهنة واستحقاقاتها الى التفاعل مع لجنة «المجلس الأعلى للثقافة» التي نظّمت المؤتمر، ما يؤكد أنّ المؤسسات ذاتها بدأت تعيش المخاوف نفسها. وزاد من قتامة المشهد وجود أحكام قضائية مناهضة لحرية التعبير ومنها الحكم الذي صدر أخيراً بحبس المخرج الشاب أشرف نبيل بسبب فيلمه القصير «لا تبيع» (الأخبار 9/7/2012). وفي مشهد متكرر لكنه يكتسب دلالة جديدة، تسلّمت الكاتبة نوال السعداوي إخطاراً لتمثل أمام النيابة في دعوى حسبة جديدة، لكنّ السؤال: هل سيكون المصير مختلفاً هذه المرة مع وجود رئيس جمهورية ينتمي الى جماعة اسلامية تحتل حضوراً في المجال العام؟المؤرخ شريف يونس المتخصّص في أفكار المفكر الجهادي سيد قطب، يرى أنّه يجب على المثقفّين أن ينأوا بأنفسهم كجماعة وليس كأفراد عن الصراع السياسي، ويسعوا إلى تأكيد موقف واضح ومتماسك من حرية الفكر والتعبير، يقوم على تفنيد كل الإيديولوجيات «الهوياتية» سواء مصرية أو عربية أو إسلامية لصالح مبدأ التطور التاريخي الذي ينتصر لعدم الوصاية على المبدع. ويرى صاحب «مسارات الثورة» أنّ كلام المثقفين عن إهدار الهوية المصرية والغزو الوهابي أقرب إلى الوقوع في المستنقع.
في المقابل، يعرب الكاتب يوسف رخا عن مخاوفه من الكساد الذي أصاب الأدب عقب الثورة نتيجة انشغال الجميع بتبعاتها واقتصار النشاط على «الكتابة السياسية». يتحدّث صاحب «الطغرى» عن مخاوف من المد الإسلاموي غير المسبوق بوصفه مواطناً أو شخصاً يطمح إلى المواطنة، لأن ثالوث «النخبة ــ العامة ــ السلطة» لا يقنع رخا الذي يصف نفسه بأنّه واحد يريد أن يشرب «بيراية» أو يصطحب صديقته إلى مكان عام بلا مشاكل. هو مسلم تزعجه مظاهر التدين الوهابي المبالغ فيها والجهل البشع بتراث الحضارة الإسلامية؛ كما أنّه إنسان لا ديني حريص على أن لا يُحرم حقه في حرية العقيدة؛ وزوج لا يريد لزوجته أن تتحجب غصباً ولا يريدها أن تعاني كونها «سافرة».
هذه المخاوف لا يظنها رخا نابعة من انتماء طبقي كما يفترض القسم الأكبر من اليسار المناصر للإخوان المسلمين. إنها مخاوف مواطن مستعد لتسمية الأشياء بأسمائها، ولم يعد يرى أي جدوى لمساعي التوافق مع سلطة لا يعترف بها أصلاً.
الكاتب شريف صالح يقول «لن يتأثر ما أكتبه بصعود هذا التيار أو ذاك. لكن لا أنكر فزعي ورعبي من أن أكون هدفاً لأحد المهووسين دينياً لمجرد أنني أسير مع ابنتي أو زوجتي. مَن يضمن لي ألا أقتل لمجرد أنني ضحكت في مقهى مع زميلة؟». يصف صالح ممثلي الجماعات الأصولية وسعيهم إلى احتلال المشهد العام بأنّهم «يشبهون جراداً أسطورياً يأكل أوراقنا وأحلامنا وحضارتنا الإنسانية وأهراماتنا وموسيقانا. يراقبوننا بأعين مفتوحة على الكراهية لا الحبّ. يريدوننا أن ندفع نيابة عنهم ثمن صدمتهم الحضارية»!
وبالمثل، تتحدث الروائية الشابة نهى محمود عن أسوأ كوابيسها: «الاسوأ أن أضع رقيباً في رأسي». وتتساءل: «هل عليّ أن انشغل الآن بالاختفاء مما أكتب حتى لا أكون مجاهرة بالإثم؟». القاصة والباحثة بسمة عبد العزيز المتخصّصة في معالجة التعذيب، تشير الى أنّ بعض المثقفين يتبنّون فكرة عدم ملاءمة الوضع والتوقيت للحديث عن حريات كاملة، منطلقين من قاعدة أنّ المجتمع لم ينضج بما يؤهله لنيل حرية حقيقية، ما يعني «البدء بعقد مساومات». تقول صاحبة «إغراء السلطة المطلقة»: «ربما يجب أن نكون جذريين في مطالبتنا بالحريات العامة من دون حلول وسطية. إنّه الدفاع عن الوجود، ليس ترفاً ولا شيئاً كمالياً».
من زاوية أخرى، يرى التشكيلي حازم المستكاوي أنّ قوى «الإسلام السياسي» في السلطة تحاول إحكام سيطرتها على المجتمع واتباع أسلوب النظام السابق في إضعاف وتهميش القوى التنويرية وتحجيم قدراتها الثقافية «حتى يظل هذا الشعب ضعيف التعليم ومحدود الثقافة، فيسهل التحكم به. لقد بدأوا مبكراً هجومهم الاستباقي باسم القيم الدينية والأحكام الشرعية على الثقافة والتعليم والإعلام لوقف أي احتمال لظهور موجة جديدة من الموجات التنويرية. إنّهم باختصار يعملون على قتل جنين التنوير المحتمل قبل أن يولد».