لم يمضِ عامٌ على آخر نشاط فنّي أقامته «مؤسّسة التوثيق والبحث في الموسيقى العربية». حينها، كرّمت المؤسسة أحد أعلام عصر النهضة الموسيقية العربية الشيخ يوسف المنيلاوي في المئوية الأولى لرحيله (1911). الحدث المذكور اتخذ بعداً فنياً وأكاديمياً جرت فصوله بين لبنان ومصر، وتضمّن مؤتمراً خاصاً بالمناسبة وإصدار تسجيلات وأمسية غنائية أحياها الشيخ إيهاب يونس (غناء) وفدوى المالكي (غناء) ومصطفى سعيد (عود وغناء) وغسان سحاب (قانون) وغيرهم.
هذه الأسماء يشكل معظمها نواة مجموعة «أصيل» اللبنانية ــ المصرية المتخصّصة في إحياء التراث الموسيقي العربي التقليدي. مساء اليوم، تدعو «مؤسسة التوثيق والبحث في الموسيقى العربية» إلى أمسية من التراث الإنشادي والموسيقى العربيّة المعاصرة تحييها «أصيل» في «مسرح المدينة» بعدما تبدّلت تركيبتها بشكلٍ طفيف، وباتت تضم مصطفى سعيد (عود وإنشاد)، والشيخ إيهاب يونس (إنشاد)، وغسان سحّاب (قانون)، وأسامة عبد الفتّاح (شاه عود)، وجُس تِرنبُل (زرب وبندير)، وعبد قبيسي (طنبور)، وبلال بيطار (سنطور)، وعلي الحوت (رقّ)، وجورج الشيخ (ناي)، ورضا بيطار (كمان).
في العام الماضي، لفت الشيخ إيهاب يونس الجمهور بحضوره وأدائه المميّز. أضفى نكهة خاصة على التحية المخصصة للمنيلاوي. والليلة، يعود الشيخ المصري الموهوب إلى بيروت، ليقدِّم مع زملائه في «أصيل» أمسية يمكن ضمّها إلى النشاطات الفنية الرمضانية. أما البرنامج فيتألف من قسمَيْن أساسيَّيْن: يتكوّن الأوّل من وصلة إنشادية تراثية، يتولى أداءها الشيخ يونس، وتضم تواشيح سابقة التلحين وابتهالات مرتجلة، في حين يتخلل القسم الثاني وصلة في مقام البياتي، مؤلفة من مساحات موسيقية وغنائية من تأليف مصطفى سعيد ونصوص عمر الخيّام وأبو يزيد البسطامي وجميل صدقي الزهاوي وغيرهم.
نتوقّف هنا عند مسألة هامة، تعود إلى بضع سنوات، وتطال إعادة إحياء التراث الموسيقي والغنائي التقليدي الذي يعود إلى عصر النهضة العربية. في الواقع، ليس سهلاً خوض هذه المغامرة، إذا نظرنا حولنا إلى مجتمعٍ باتت اهتماماته الفنية في مكان آخر نقيض لما تحاول بعض الجهات تقديمه، على رأسها بعض الفرق الشبابية التي تنتهج هذا النمط، وطبعاً «مؤسسة التوثيق والبحث في الموسيقى العربية» التي قطعت أشواطاً كبيرة، أقله في الخطوة الأولى المتمثلة في جمْع هذه الكنوز وحفظها وتوثيقها بأمانة ومهنية غير معهودة في مجتمعنا. أضف إلى ذلك أنّ الإعلام لا يساعد أبداً في تحقيق هذا الهدف لسببين: أولاً لأنه يتحمّل مسؤولية تكوين ذائقة المجتمع الفنية من خلال التعتيم (المبالغ فيه) على الأصيل، والترويج للموجة التجارية. ثانياً، لأنه يتناول الفنون الأصيلة من زاوية توحي بأننا في صدد أمرٍ «عجيب»، تفوق قيمته الوصف والإدراك، كأنّ وجوده بيننا «إكزوتيك»، أو أنه مخلوق فضائي لا يشبهنا في أيّ من مكوناته! في ظلّ هذه المعطيات، يسير المدافعون عن قيمة التراث عكس تيارٍ تصعب مقاومته. لكن المثابرة والجهود حققت فعلاً نتائج ملموسة، نلاحظها من خلال مراقبة تنامي الجمهور المقبل على النشاطات ذات الصلة. لكن المؤسف هو ارتكاب هفوات من قِبَل المجاهدين في هذا الاتجاه، خصوصاً أنها شكلية، أي أن تأثيرها السلبي كبير فيما يسهل تفاديها. كل ما في الأمر أن قاموس الحقبة الخاص بهذه الفنون باتت معظم مفرداته منفّرة للجيل الجديد... بدءاً من الزيّ!

حفلة «أصيل»: 9:30 مساء اليوم ـــ «مسرح المدينة» (الحمراء، بيروت) ـــ للاستعلام: 01/343834



العلبة المنيلاوية

أهمّ حدث في مهمّة إحياء عصر النهضة تمثّل في العلبة التي أصدرتها «مؤسسة التوثيق والبحث في الموسيقى العربية» في العام الماضي وحَوَت عشر أسطوانات توثّق معظم إرث المنيلاوي الغنائي، إضافة إلى كتاب مرجعي عن حياته وفنّه (باللغة العربية مع ترجمة مختصرة إلى الفرنسية والإنكليزية). المؤتمرات الخاصة بهذا العصر مهمّة. الأمسيات المتضمّنة أعمالاً غنائية وموسيقية لأعلامه أيضاً مهمة. لكن، لا شيء يضاهي أهمية جمْع التسجيلات القديمة، وتنظيفها بأمانة، وتوثيقها ثم إعادة نشرها بمهنية وهمٍّ فنيَّيْن، حيث يغيب الحس التجاري ويغلب الإتقان على مستويَيْ الشكل والمضمون.