في المقابر الجماعية يمزج الموت كل المشاعر، والأحاسيس، والأماني، والدماء، واللحم المثقوب والمحروق... كائن واحد، يجتمع فيه كل الضحايا. فهذا قلب، وتلك إصبع، وهذا رأس، وهذه عين، وهذه أذن، وهذه ذراع، وهذا صدر، وهذه كتف، وهذا ظهر، وهذه عنق، وهذا قلب... يمكننا أن نجمع في إنسان واحد أكثر من 1200 عنصر لنقسمها على الضحايا. ولو زاد الضحايا، فبالطبع سنجد المزيد. الإنسان كلٌّ من أجزاء لا تحصى. رقعة شاسعة تكفي الجميع وتفيض.
هؤلاء الأموات سيحلمون حلماً واحداً، نختصره في القصاص من القاتل، يذهبون إليه كلّ ليلة ويفزعونه. هو بالطبع لا يمكنه أن يقبض عليهم ويقتلهم مجدداً. يرهقون تفكيره، يؤثرون في مصيره، يمنعونه من النوم الطبيع، يمنعونه من الأكل، يمنعونه من الجنس، يمنعونه من الأحلام أيضاً، يمنعونه من ممارسة جميع عاديات الحياة، ويسمحون له بشيء واحد هو أن يصلي، لأن الأحلام المتحدة لا تقف حجر عثرة أمام الإله وأمام شريعته الصلاة.

وعند ذكرنا للصلاة، تسأل أحلام الضحايا: «وهل كان يصلي عندما قتلنا؟ فتجيبها أحلام الحياة: «حتى الحجاج بن يوسف كان يصلي، وحتى هتلر، ونيرون، وغراسياني، وبوش، وشارون وكل سفاحي العالم يمارسون شعائر دينية. فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، لكن لا تملك أي سلطة لمنع حدوث تلك الفحشاء وذاك المنكر».
عندما تموت مجموعة من الكائنات دفعة واحدة، نتيجة جريمة ارتكبتها سلطة السياسة أو سياسة السلطة: تصفيات جسدية، أعمال إرهابية، قنابل ذرية، تطهير عرقي أو طائفي أو غيرها... عندما تموت مجموعة من الكائنات دفعة واحدة نتيجة جريمة ارتكبتها سلطة الطبيعة أو طبيعة السلطة: زلازل، براكين، فيضانات، انهيارات ثلجية أو ترابية، أوبئة، حسد، إلخ... فإنّ لحوم هذه الكائنات ودماءها وعظامها، تختلط في بعضها مكونة مخلوقاً واحداً، بأطراف وأعضاء عديدة. هذه المجموعة التي جعلها الموت ـــــ نتيجة مذبحة أو جريمة أو كارثة أو حتى قضاء وقدر ـــــ كتلة واحدة، ستحلم أيضاً حلماً واحداً، يبلور مأساتها، ويعبّر عن أمانيها: تحقيق القصاص العادل الذي يساوي ويتجاوز ما عانته من ألم في مواجهة الموت، خصوصاً أن هذا الموت نفّذ غيلة وغدراً وفي ظروف لا إنسانية. أيّة عدالة أو فروسية، في قتل الأطفال والعزّل والضعفاء والمرضى والأسرى وكل الذين لا حول لهم ولا قوة؟
الناس الذين يُقتلون جميعاً، ويُدفنون في قبر واحد، تتحد أحلامهم تلقائياً. فما بعد الموت لا مقاومة سوى الحلم. الدم المحترق كفيل بتوحيد الأحلام في حلم واحد، يجعل الضحايا ينعسون معاً ويبدأون الحلم معاً، كما صرخوا معاً حين ذبحهم، كما قتلوا معاً، كما قبروا معاً. ينامون ويواصلون الحلم من دون توقف، حتى إذا حدث القصاص، فسيواصلون الحلم. لقد سُرقت حياتهم التي منحها لهم الله من دون وجه حق. سيواصلون الحلم لأنّ يقظتهم تشعرهم بالألم. مواصلة الحلم ليست هروباً، بل حياة جديدة يعجز الجلادون عن تتبعها واقتلاعها منهم.
في حياة الحلم يوجد كل شيء: زواج، طلاق، عمل، قراءة، رياضة، ثقافة، بيع، شراء، عبادة... كل شيء نجده في حياة الواقع، نجده أيضاً في حياة الحلم. حتى الجلادون والطغاة الذين يتسللون إلى الأحلام على هيئة كوابيس فارغة، نجدهم حاضرين طبعاً بقوة.
الضحايا يعيشون في الأحلام، ويحلمون بالشيء الذي نعسوا وناموا من أجله، كي يحلموا به. ولو عاد عيسى عليه السلام مع معجزته، وأعادهم للحياة، فسيدخلون الحياة التي قتلتهم حالمين. سيدخلون إلى خيالات الأحبّاء عبر الأحلام، يمكثون في بيوتهم كأحلام تتوزع على كل أفراد العائلة والأصدقاء. قد تكون أحلاماً وقتية وقد تكون دائمة. المهم أن هذه الأحلام حرّة لا أحد يتحكم فيها. أحلام تعيش في البرزخ، تنتظر يوم الحساب والعقاب والثواب، لتخرج من دنيا الأحلام المؤلمة، إلى الجنة أو إلى النار... لكن لا أعتقد أنها ستدخل النار، فالله غفور رحيم خصوصاً أمام إنسان قتلته الآلة السياسية غيلة وغدراً، من دون محاكمة، وهو سجين جائع مريض أعزل محشور بين أربع جدران ومغلوب على أمره... فلا نامت أعين الجبناء.
لا بد من أن أجد قبر عمي. لا بد من أن أجد قبر أخي. سأتحول وكل أحبائي في دنيا الأحلام، أو المتحدين معي في حلم واحد، إلى نمل. نمل كثيف بعدد مخلوقات الحياة، يدخل كل الأبواب ويغور في كل الجدران الأفقية والطولية ويلج أيضاً صلادة الثقوب، باحثاً عن حفرة المقبرة الجماعية. سيقلب ليبيا كلها رأساً على عقب، حتى يجدها.
سأتحول أنا ومن معي في دنيا الحلم الواحد إلى إسفنج ينزح البحار لنرى أين يمكث أحباؤنا القتلى. وإن كان قد أكلهم الحوت، فسنفتح كل علب الطون، والسردين، والرنجا، والسلمون، لنشم رائحتها، وهل من رائحة لأبنائنا وإخوتنا وأحبتنا فيها؟ سنتحول إلى عصافير وسحب وطائرات ورقية وأمطار لم تهطل، لنمسح الفضاء كي نجدهم. سنتحول إلى أنوف تشم رائحتهم وتخرجهم من قبر ضيّق لم يختاروه، من قبر لم يشهد وداع أحبابهم. نخرجهم من قبر مجهول إلى قبر شريف معروف، نزوره على مدار العام، على مدار الدهر... كما يفعل الناس مع قبور الأنبياء والأولياء الصالحين.
* روائي ليبي