مضى أكثر من قرن على رحيل الكاتبة والرحّالة السويسرية إيزابيل إيبرهاردت (1877 ـــــ 1904)، وما زالت الكثير من التساؤلات تدور حول شخصها الغامض. عن «دار القدس العربي» في الجزائر، صدرت أخيراً ترجمة لمجموعة من أعمالها القصصية المبعثرة، في كتاب بعنوان «ياسمينة وقصص أخرى» نقله إلى العربيّة بوداود عمّير.
تخللت حياة إيزابيل إيبرهاردت مناطق ظلّ كثيرة، فقد رحلت في مقتبل العمر، قبل أن تفشي أسرارها. بعض النقاد يرجّحون كفّة أن تكون ابنةً غير شرعيّة للشاعر الفرنسي أرتور رامبو. ولا تزال الكثير من التأويلات والفرضيات تدور حولها، مع غياب أيّ دليل على هوية والدها الحقيقية. أمّا والدتها ناتالي، فقد حملتها معها عام 1879 من برد وقسوة العيش في سويسرا، إلى دفء وشمس عنّابة (شرقي الجزائر)، حيث ترقد الآن بعدما أعلنت اعتناقها الإسلام.
خلافاً لأمها، ارتحلت إيزابيل صوب الجنوب. غامرت نحو الصحراء، وعاشت جلّ حياتها بالقرب من أهل البلاد. انتقلت من مدينة إلى أخرى، بزيّ رجالي مخافة إثارة الانتباه، مغيّرة اسمها إلى «سي محمود». عملت صحافية في جريدة «الأخبار» المعادية للسياسة الكولونيالية، وتعرضت لمحاولة اغتيال في إحدى الزوايا الصوفية، ثمّ قضت ضحية فيضان وادي عين الصفراء (جنوب غربي الجزائر)، ولما تتجاوز السابعة والعشرين. نشرت أعمالها المكتوبة بعد وفاتها، ومن بينها «مذكراتي» (1921) وفيها تسرد تفاصيل تيهها في الصحراء، و«في بلاد الرمال» (1923). ونشرت مجموعة من القصص القصيرة في صحف نهاية القرن التاسع عشر. تلك القصص جمعها وترجمها بوداود عميّر، لتصدر للمرّة الأولى بالعربيّة تحت عنوان «ياسمينة وقصص أخرى».
ثلاثة محاور تحدد توجهات القصص المترجمة: الصحراء، المرأة، والحبّ. تعلن إيبرهاردت انتماءها إلى حياة لا تمتُّ بصلة إلى حياة بنات جلدتها الأوروبيات. تجتهد في الاقتراب من نساء جزائريات، تتحدث لغتهن العربية، وتنقل جزءاً من محنهنّ وآلامهنّ. تصادفنا في القصة الرئيسية من المجموعة شخصية ياسمينة. بدوية يافعة حالمة، وعاشقة، وأمية، وتريد الانتقام من واقعها. تُزوَّج رغماً عنها، وفق التقاليد الاجتماعية المنتهجة آنذاك، رجلاً لا تعرفه، يُحكم عليه بالسجن لعشر سنوات بعد عام على زواجهما. تجد نفسها وحيدةً من دون معيل، فتضطر إلى دخول عالم البغاء، ثمّ تنهي حياتها على نحو درامي: «صارت ياسمينة عبارة عن خرقة من اللحم، أنهشها المرض والموت بلا مقاومة... لقد تحطّمت في لحظة واحدة دوافع الحياة داخلها».
يلفت المترجم في مقدّمة الكتاب إلى أنّ نصوص إيبرهاردت تميّزت أدبياً باستخدام كثيف للكلمات العربية، داخل النص المكتوب بالفرنسية، فاسحةً المجال بذلك للقارئ الأوروبي للولوج إلى النصّ، بما يحمله من دلالات عميقة الأثر. ملاحظة يمكن ملامستها في مختلف قصص المجموعة، على غرار قصتي «الرائد» و«نوار اللوز» التي تدور وقائعها في واحة بوسعادة (جنوبي الجزائر). هناك تعيش سعدية وحبيبة، امرأتان طاعنتان في السن. «كانتا كالأصنام القديمة المنسيّة، تشاهدان من خلف الدخان الأزرق المتصاعد من سيجارتيهما، مرور الرجال الذين لم يعودوا يولونهما أيّ اهتمام، الفرسان، مواكب الأعراس، قوافل الجمال أو البغال، الشيوخ الذين انتهت صلاحيتهم، والذين كانوا في يوم ما عشاقهما».
تمتاز نصوص إيزابيل إيبرهاردت القصصية بالوصف الدقيق والميل إلى الكتابة الصحافية. يظهر التزامها واضحاً في الدفاع عن خيارت أهل البلاد، في مواجهة الإدارة الاستعماريّة. كانت «تعرف كيف تفضح حماقة الاستعمار»، بحسب الكاتبة والصحافية كاترين ستول سيمون. «فلا غي دو موباسان المنبهر مثلها ببلاد المغرب، ولا أندري جيد، كان لديهما تلك النظرة السياسية الثاقبة، التي تجاوزت على نحو واسع النوايا الأدبية».