القدس | شيّعت فلسطين، عصر أمس، جثمان شاعرها طه محمد علي (1931)، إلى مثواه الأخير في الناصرة. هنا ووري في الثرى ابن قرية صفورية المهجّرة، في المدينة التي سكنها بعد تهجير قريته. وقد شارك في الجنازة، التي انطلقت بعد صلاة العصر، العديد من أهالي الناصرة ومهجّري قرية صفورية وعدد من السياسيين والكتّاب والمبدعين. كيف، في زحام الموت والواجب الصحافي وأقل من ساعة واحدة، يمكنك أن تقول رحيل شاعر بفرادة وندرة طه محمد علي، بل وبرمزيته الحيوية التي لا تشبه الرمزيات الأخرى لـ«الشعراء الكبار»؟ هو جدتنا التي لا نعرف كيف نصف خسارتنا فيها... جدتنا لأنه كان بزهد الجدات وطيبتهنّ وقدرتهنّ على بذل الحب بلا شروط، لأنه كان أبعد ما يكون عن تسلّط الآباء وهيمنة الأجداد. ولأنه كان مثلنا شاعر قصيدة نثر، كتب لغة الحياة في محيط غنائي متجمد.
بدأ من شيخوخته شاعراً ذا فتوة، مجموعته الأولى «القصيدة الرابعة وعشر قصائد أخرى» صدرت عام 1983 وقد تجاوزت الخمسين. بالطبع، نشر قصائد وقصصاً قبلها في المجلات الفلسطينية في الستينيات والسبعينيات، لكنه ابتداءً من 1983 فقط انتظم في إصدار الكتب. وحين ترجم شعره إلى الانكليزية والفرنسية أواخر التسعينيات، وجد من الحب ما أَذهل «جدتنا» التي كانت تتلقى التقدير والثناء غير مصدقة أو تزعم أنها غير مصدقة.
صحيح أن تجربة طه محمد علي «ماغوطية» في بعض مراحلها، لكننا نزعم أنها تجاوزت ذلك، وأن ما سيبقى من طه شعراً أكثر مما سيبقى من المعلّم الماغوط. شعر طه يجمع باقتران نادر ثقافة شعرية عالية، مشغولة بأداء عفوي كأنما هو عفو الخاطر. في استعمال اللغة وتناول المواضيع، يجمع الجرأة والطليعية إلى ذلك الاطمئنان والاقتدار والمعرفة بالأصول التي تسمّى الأصالة. شعره محلّي بالمعنى الإيجابي للكلمة. وخلف اللغة الشعبية والأجواء والتعبيرات «البلدية»، يكمن الشعر الرفيع والمعالجات التي تجعل قريته «صفورية» ـــــ فردوسه المسروق منذ 1948 ـــــ مسرحاً لملهاة الإنسان ومأساته أمام صخب العالم وعنفه.
منذ البداية، نشرت كل مجموعاته الشعرية ـــــ ومجموعته القصصية الوحيدة ـــــ في فلسطين، بعضها صدر ضمن منشورات «اتحاد الكتاب العرب» في حيفا، وواحد صدر عن «مركز حفظ التراث» في أم الفحم، ومجموعاته الأخيرة نشرها بنفسه في مطابع الناصرة. وبهذا بقي معروفاً على نطاق ضيق في العالم العربي. وحتى حين صدرت أعماله الكاملة قبل أشهر (دار راية)، فإنها صدرت في حيفا أيضاً، كباكورة لمشروع نشر طموح ونوعي اختار أن يبدأ بطه محمد علي. منذ أشهر والشاعر في سرير مرضه وصورته على الغلاف تحت «الأعمال الكاملة». «الأعمال الكاملة» تعبير يستفز بقسوته، فأنا وآخرون لا بد من أنّ فينا شيئاً من أعماله، وأننا بعض أعماله.
الذين التقوا طه محمد علي لمرة واحدة، يعرفون نوع الأثر الذي يمكن أن تتركه إنسانيته الهائلة التي أودعها شعره وقصصه وسيرته. هائلة هي الإنسانية التي تفيض من صوته وأحاديثه وقسماته، من حركات يديه الكبيرتين ومن أخاديد الزمن في جبينه، وهذا الشعر العذب الصادق والطفولي والخجول والمجروح الذي يخفي جرحه. الدين الكبير الذي لا أعرف سبيلاً لإيفائه. والأصوات والابتسامات والعجز الهائل أمام موت من نحبّ. وشعوري أن فلسطين نقصت اليوم، وما لي سوى أن ألوّح لك (كأن الوفاء يعزّي!) أيّها الصديق الحبيب والباقي.