تونس | تونس الآن مَلُولَة أكثر من أيّ وقت مضى. كلّ شيء في شوارعها يتمحور حول لازمة الانتظار. أينما يذهب الزائر، يشعر بأن الانتظار يخطف الثورة. في حلق الوادي، جلس المدوّن عزيز عمامي يعدّ الأحزاب التي بلغت 110. وفي شارع جانبي، مشى مدير سينما «أفريكا آرت» الحبيب بلهادي بجانب صالته المقفلة. تلك الصالة التي جسّدت أحلامه بالدفاع عن السينما الطليعيّة قد لا تشارك في انطلاق الموسم الثقافي بسبب عدم حصولها على رخصة حتى الآن. الجميع في انتظار الانتخابات في 23 الحالي.
وبينما تنشغل الأحزاب التي تتوالد كالفطر بتبني الثورة كطفل لقيط، يشهد فضاء «التياترو» ــ أحد معاقل المسرح الطليعي منذ عقدين ــ مشغلاً من نوعاً آخر. مشغل يلقي القبض على «غودو» التونسيّ، ويحوّل لحظة الانتظار إلى فرجة، تتهكّم على فكرة خلوة التصويت في الانتخابات. خلال البروفات الأخيرة لمسرحية «الخلوة»، يجلس المعلم توفيق الجبالي (1944) يعطي ملاحظاته، وينبّه الضيوف الحاضرين إلى أنّ «بعض مشاهد المسرحيّة لم تنضج بعد».
«الخلوة» إذاً عنواناً لعودة الجبالي إلى الخشبة بعد «ثورة الكرامة». المسرحيّة التي تنطلق غداً، أنجزها بالتعاون مع نوفل عزارة ومعزّ القديري. وفيها يتلاعب على مفهوم «الخلوة»: وجودياً أولاً، عبر الحاجة إلى الاختلاء والتأمّل. كأنّ التونسيين يحتاجون هذه اللحظة التي تسبق اتخاذ القرار، وهو هنا القرار بالتصويت. يطاول العمل كافة طبقات المجتمع، من خلوة التصوّف، إلى خلوة الحمّام، وخلوة العريسين، وحتى كابينة اتصالات. الخلوة هي أيضاً مشغل للثرثرة. في مشهد لاحق، ينتصب ثلاثة ممثلين أمام ميكروفون في إحدى الخلوات، أحدهم يتحدّث باسم الأحزاب، وسيّدة تنادي بحقوق المرأة، وشاب يطالب بإعطاء دور للشباب. هذه المباشرة المألوفة تأخذ الكليشيهات المتداولة في الشارع إلى بعد جديد يعود فيه المسرح العربي إلى انشغاله باللحظة الراهنة على اعتبار أنه صنيعة المجتمع، وحامل مسؤوليته الأخلاقيّة. في مفارقة مباشرة، يظهر عدد من الشخصيات في قاعة التصويت، كأنّهم مغيبون عن النشاط الانتخابي في الشارع. بينما تنتظم منقبّات في كتلة واحدة، في مشهد كوريغرافي يعيد إلى الأذهان مسرحيّة «خمسون» لزميله ومواطنه الفاضل الجعايبي. النسوة المتشحات بالسواد يُدرن ظهورهنّ للجمهور ويرفعن أوراق التصويت فوق رؤوسهنّ، ويضعنها في الصندوق.
وسط هذا، يعطي الجبالي تعليماته، مطلقاً ضحكاته، ومركّزاً على ضرورة ملء المساحات الفارغة التي لا تغطّيها الإضاءة. يبدو أن هذه هي المساحة التي كانت تشغل أحد أبرز رموز المسرح التونسي والعربيّ المعاصر في أعماله السابقة. لا يمكننا إلا أن نتذكّر أعماله التجريبيّة ذات النفحة المشهديّة القويّة من «فمتلا» إلى «مانيفستو السرور»، وسلسلة مسرحيات «كلام الليل» التي بدأها عام 1990. حينذاك كان الجبالي ورؤوف بن عمر ومحمود الأرناؤوط وكمال التواتي وآخرون يسخرون من الدكتاتور بصمت، في الظلمة. يشتغل صاحب «التياترو» على مسرح «نخبوي للجميع» ويسخر من السلطة الشمولية في مشهد «شعب واحد ما يكفيش».
في «الخلوة» يفكك الجبالي المشهد السياسي المملّ، ويعيد طرحه بقسوة وتهريج على الجمهور. يلخّص نوفل عزارة التجربة لـ«الأخبار»: «قيمة المسرح في استمراريته... الثورة مستمرّة، والفنان هو مواطن في هذه الثورة».
«الخلوة» : 7:30 من مساء غد وبعده ـــ «التياترو» (تونس العاصمة) 0021671894313ـــ
www.elteatro.net