قبل أن يصاب بسرطان البانكرياس، لم يكن ستيف جوبز (1955 ــــ 2011) يعرف مكان ذلك العضو في الجسم تحديداً... بعد سبع سنوات من الصراع مع الورم الفتاك، رحل مهندس نجاحات شركة «آبل»، أول من أمس، عن 56 عاماً، في مدينة بالو آلتو، في ولاية كاليفورنيا الأميركية. هذا ما أعلنته شركة «آبل» في بيان رسمي، ناعية مديرها التنفيذي السابق الذي غادر منصبه لظروف صحية في آب (أغسطس) الماضي، بعدما صار «عاجزاً عن الوفاء بالالتزامات والمسؤوليات» المنوطة به، تاركاً مقاليد القيادة لخلفه تيم كوك (50 عاماً).
التفاحة المقضومة الشهيرة حزينة إذاً، والسؤال على كل لسان: هل يكون العالم بعد ستيف جوبز كما كان قبله؟ وسائل الإعلام العالمية توقّعت تراجعاً في أرقام مبيعات «آبل»، والمتعصّبون لثقافة الماكنتوش يخشون أن يكون الـ«آي فون 4 أس»، آخر الابتكارات الناجحة للشركة، رغم انّه خيّب التوقّعات. فايسبوك بدوره ارتدى ثوب الحداد. مؤسس موقع التواصل الاجتماعي مارك زوكربيرغ كتب يشكر «معلّمه». وصور البروفايل حول العالم اتشحت بالسواد، وحوّر بعض الفايسبوكيين كلمة iPAD إلى iSAD، تعبيراً عن الحزن لفقدان ساحر كوبرتينو المحبوب.
على تويتر، تحوّلت عبارات «ستيف جوبز»، و«شكراً ستيف جوبز»، و«ارقد بسلام ستيف جوبز»، إلى التاغ الأكثر انتشاراً حول العالم. الرئيس الأميركي باراك أوباما، كان من أوّل المؤبّنين على تويتر. كتب: «العالم يفقد صاحب رؤيا». متاجر «آبل» من لوس أنجليس إلى نيودلهي، تحوّلت إلى مزارات للعزاء: أزهار، وشموع، وتفاحات مقضومة، وهواتف ذكية مضاءة تحيةً للمبدع الراحل. للمرة الأولى منذ سنوات، يتحوّل خبر «نوبل الآداب» إلى خبرٍ ثانٍ. من يفكّر اليوم بالشعر: صورة ستيف جوبز تحتلّ كامل المكان. مجلّة «تايم» الأميركية، تراجع كلّ أغلفتها التي تصدّرها جوبز منذ كان في العشرين. الـ«غارديان» البريطانية تستعيد صور حياته خطوة خطوة، منذ كان يعمل في كاراج منزل والديه بالتبني (راجع الإطار) حيث أسس «آبل إنك» عام 1976. صحيفة «نيويورك تايمز» خصصت باباً لصور القراء، تروي كيف غيّرت «التفاحة» حياتهم: هذا في غرفة الجلوس مع الـMac وأطفاله وكلب العائلة، وذاك يلتقط صورة حبيبته على «آي فون». ضجّة كافية للقول إنّ ستيف جوبز، لم يهندس نجاحات «آبل» فحسب، بل هندس العالم كما نعرفه اليوم، وكما سيعرفه أطفالنا.
بعقله الحالم، وعناده الشبيه بعناد الأطفال، ابتكر ستيف جوبز شكلاً مختلفاً لحياة البشرية: هواتف ذكيّة، موسيقى يتمّ تحميلها عبر الإنترنت، كمبيوتر يُحمل في محفظة، وأفلام رسوم متحرّكة تصنع بكاملها على الكمبيوتر. المليونير العصامي، عشق التكنولوجيا في وقت مبكر. كان في الثانوية حين اكتشف خللاً في جهاز كهربائي، فاتصل بالصانع الذي أعجب به ووظفه فوراً. عام 1972، دخل جوبز جامعة «ريد كولدج»، ليغادرها بعد أشهر قليلة، لأنّ كلفة تعليمه كادت تطيح كل مدخرات أهله. قرر تعليم نفسه بنفسه، وإذا به يدخل التاريخ بفضل تفاحة. على فايسبوك، كتب كثيرون الجملة التالية: «ثلاث تفاحات غيّرت العالم: تفاحة آدم، تفاحة نيوتن، وتفاحة ستيف جوبز».
سرّ نجاح هذا الرجل أشبه بقصص النجاح على الطريقة الهوليووديّة، فيها شيء من الرومنسية، والكثير من مكوّنات الحلم الأميركي. في أكثر من لقاء صحافي، تحدّث جوبز عن طريقه إلى القمة: «أقف كلّ يوم صباحاً أمام المرآة، وأسأل نفسي: إن كان هذا اليوم الأخير في حياتي، فكيف أقضيه؟» بهذه الطريقة، بقي طوال عقدين يتصدّر قائمة الشخصيات المئة الأكثر تأثيراً في العالم، بحسب مجلة «تايم» الأميركية! يمشي في أروقة مؤسسته الضخمة بالشورت، يشرف على كلّ صغيرة وكبيرة، ويغيّر في طريقه تاريخ التكنولوجيا الرقمية. لا أحد يعرف كيف كان مخترع الماكنتوش، والهواتف الذكية، والآيباد، يعمل فعلاً. منذ سنوات، اعتمدت «آبل» قاعدة ذهبيّة: الشفافية ممنوعة! كيف يتمّ ابتكار اختراعات جديدة؟ وكيف تصير سلعاً تكتسح السوق العالمية؟ هذا سيبقى سراً يدفن مع ستيف جوبز. لكنّه قال مرّة وهو يقف محاضراً أمام طلاب جامعة ستانفورد عام 2005: «لا تجعل ضجيج آراء الآخرين يعلو فوق صوتك الداخلي». سرّ نجاحه إذاً أنّه كان يثق بحدسه الداخلي حتى النهاية؟ أم هي البوذية التي اعتنقها لسنوات؟ يؤكد ستيف فوزينياك، شريكه في تأسيس مغامرة «آبل» قبل ثلاثة عقود، أنّ جوبز تخطّى بأشواط نفسه، والأهداف التي كان يطمح إليها في البداية.
أيّاً كانت الطريقة فالنتيجة واحدة: هذا الرجل أسطورة. يعود لستيف جوبز الفضل في ابتكار فكرة الكمبيوتر المنزلي والمحمول، وله أيضاً يعود الفضل في تطوير الفأرة. شخصيّته القوية، ورغبته بعدم المساومة على أفكاره وأحلامه مطلقاً، أدّت إلى خلاف حاد مع «آبل» عام 1986، تسبب في مغادرته الشركة. في تلك الفترة، أسس شركة NeXT، واستوديو «بيكسار» ومن خلاله ابتكر «الأنيمايشن» الرقمية، فكان العراب لأوّل شريط تحريك ينجز كله بواسطة الكمبيوتر هو Toy Story (1995). شكّل ذلك ثورة في عالم السينما، وأثمر تعاونه مع «ديزني» أفلاماً شهيرة مثل «البحث عن نيمو» (2003)... بعد ابتعاد جوبز، راحت أرقام «آبل» في السوق تنهار، على مرأى من منافسها الرئيسي بيل غايتس، حوت «مايكروسوفت». ولم يكن من الشركة الأم إلا أن استنجدت بمؤسسها، فعاد إليها حاملاً خطة إنقاذية عام 1996. منذ ذلك الحين، أطلق ثورةً رقمية أدخلت حرف الـi في التاريخ: iMac ،iPod ، iPhone، iPad، وبالطبع iTunes. الموقع الأخير المخصص لشراء الأغاني على الشبكة العنكبوتيّة، غيّر صناعة الموسيقى، وسبّب من دون أدنى شكّ انهيار سوق الأسطوانات المدمّجة الذي لم ننته من رثائه.
بسبب ستيف جوبز، صار سوق البوب حول العالم مُلكاً لمن يتربّع على عرش iTunes، وليس لمن يبيع عدداً أكبر من الـ«سي دي». لهذا، لم تنحصر ارتدادات ظاهرة جوبز في الفضاء الرقمي، بل كان لها تأثيرات مهمّة على الاقتصاد العالمي. هكذا، صنفته «نيويورك تايمز» أحد أكبر المجددين في تاريخ الرأسمالية المعاصرة... رغم أثره الكبير في السوق، بقيت ابتكارات جوبز ملكاً للأغنياء فقط، أو كما قالت إحدى الناشطات على تويتر أمس: «أحبك رغم أنني لا أمتلك ثمن آيباد». منذ أن دخلت «آبل إنك.» البورصة عام 1980، تحوّلت إلى رقم صعب، وقد بلغت قيمتها الصافية عام 2010، 65 مليار دولار. كما أنّ ثروة جوبز التي ستؤول إلى زوجته وأولاده الأربعة تقدّر بـ 29 مليار، جاعلةً منه أحد أثرى رجال الأعمال في العالم.
من كان ستيف جوبز إذاً؟ إنّه مزيج من رجل أعمال طموح، وفنان صاحب رؤيا، ومدير عنيد يعرف كيف يستخلص الأفضل من فريقه. كان رجلاً ترك بصمته على حقبة مهمة في الفورة الرقميّة... فهل انطوت برحيله إلى غير رجعة؟



5 تواريخ

1955
الولادة في سان فرانسيسكو (ولاية كاليفورنيا، الولايات المتحدة)

1976
أسس شركة «آبل إنك.» في كاراج عائلته، وبعد أربع سنوات دخلت الشركة إلى البورصة

1985
غادر «آبل» على خلاف، وأسس بعد عام «بيكسار» أوّل استوديو مخصص لأفلام التحريك الرقمية، وعنه أطلق أوّل شريط تحريك رقمي Toy Story (1995)

1996
عاد لينقذ «آبل» من الغرق، وأطلق ثورة رقمية تمثلت بإنتاج الهواتف الذكية، وأجهزة الـiPod وأخيراً لوح الـiPad

2011
تنحى عن منصبه رئيساً تنفيذياً لـ«آبل» في آب (أغسطس) الماضي. ورحل أول من أمس، في اليوم التالي لإطلاق جهازي iPod4s وiPhone4s، عن 56 عاماً



أبو الماكنتوش... (فيه شيء) من حمص

حصل ستيف جوبز على اسمه من والديه بالتبني، وهما بول وكلارا جوبز، والاثنان، من عائلة هاغوبيان الأرمنية في الأصل. لكنّ قلّة كانت تعرف قبل الأمس أنّ والد ستيف البيولوجي سوري، وابن عائلة ثريّة من حمص، اسمه عبد الفتاح الجندلي. الإطلالة الوحيدة على حياة الجندلي (1931)، أتاحها الصحافي مهنّد الحاج علي، في لقاء أجراه معه خلال كانون الثاني (يناير) الماضي في صحيفة «الحياة». وفي اتصال مع الحاج علي، أخبرنا أنّ «الجندلي أقام في بيروت مطلع الخمسينيات؛ إذ كان يتابع دراسته في «الجامعة الأميركية»، وهو قومي عربي، وكان رئيساً لجمعيّة «العروة الوثقى»، وعلى تماس مع قادة حركة القوميين العرب، وخصوصاً جورج حبش». بعد حلّ جمعيّة «العروة الوثقى» عام 1954، هاجر الجندلي إلى الولايات المتحدة حيث أكمل دراسته وحاز شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية. أنجب الجندلي ابنه حين كان لا يزال طالباً، من زميلته في الدراسة جوان شيبل. العقلية المحافظة لأهل الحبيبة، منعت الثنائي من الزواج، ودفعت أم جوبز مكرهةً إلى عرض ابنها للتبنّي. لاحقاً، تزوّج الجندلي شيبل، وأنجبا ابنةً اسمها منى، لكنّهما انفصلا، فحملت الطفلة اسم زوج والدتها الثاني لتصير منى سمبسون، وهي روائية أميركية شهيرة. أما سبب الانفصال، فكانت عودة الجندلي للإقامة في سوريا إبان الوحدة مع مصر...
خلال شبابه الأوّل، بحث جوبز عن والديه البيولوجيين، ويقول مهنّد الحاج علي إنّه «التقى بوالدته التي كانت تحمل الكثير من مشاعر الضغينة للجندلي، وأدت دوراً أساسياً في قطع العلاقات بين ستيف ووالده البيولوجي». بعد سنوات، عاد جوبز والتقى أخته منى، وبقيت العلاقات بينهما مستقرّة، لكنّه لم يلتقِ والده قط، وكان يرفض ذكره في أي لقاء. واقتصرت العلاقة بين الاثنين على بعض الرسائل الإلكترونية في الأعياد، لكنّ «الجندلي لم يجرؤ يوماً على رفع سماعة الهاتف لمخاطبة ستيف» بحسب الحاج علي. الجندلي الذي درّس العلوم السياسية في الجامعة، يدير حالياً كازينو في ولاية نيفادا، ويحلم بالعودة مرّة ثانية إلى بيروت، وما زال يحتفظ بأفكاره القومية العربية العتيقة.