القدس المحتلة | سيرك حقيقي هو قصة المشاركين الفلسطينيين في «مهرجان العود الدولي» الذي يقيمه «بيت الكونفدرالية الصهيوني» في القدس بدءاً من اليوم حتى 19 الحالي. المهرجان الذي لا يخرج عن سياسة بلدية الاحتلال في القدس ـــــ الشريك الأساسي المموّل للمهرجان ـــــ يبدو سيركاً في حيثياته الاستشراقية، واستغفاله لفنانين فلسطينيين وأتراك ومغاربة بتحويلهم إلى بازار من الإثنيات والطوائف الملوّنة أمام جمهور «الكونفدرالية الصهيونية» من مستوطني «القدس الغربية».
يحتلّ «بيت الكونفدرالية الصهيوني» مبنى تاريخياً فلسطينياً قريباً من «فندق الملك داود» في القدس، ويختص بجلب «فرق ومغنّين إثنيين» من العالم وتشجيعهم على التعاون مع «الموسيقى الإسرائيلية»، وتقديم تجارب مصطنعة حول مفاهيم «السلام» و«الأخوة»، وكليشيهات أخرى أفرغت من مضمونها. نسمع «الإسرئيلي من أصل عراقي» يائير دلال يغنّي بالعربية «زمن السلام انشا الله»، وإثيوبيين يهدرون موسيقاهم تلبية للذوق الاشكنازي، وهيا سمير «الإسرائيلية من أصل مصري»، وياسمين ليفي ومن لفّ لفّها... والكل يغنّي إنشا الله إنشا الله.
تأسس «بيت الكونفدرلية الصهيوني» Zionist Confederation House (يقدّم نفسه على نحو موارب كـ«بيت الكونفدرالية») بعد عامين من الانتفاضة الأولى ـــــ أي عام 1989 ـــــ بمبادرة من كالمان سولتانيك الرئيس السابق لـ «الكونفدرالية العالمية للصهاينة المتّحدين» World Confederation of United Zionists ، والعضو الكبير في «الوكالة اليهودية» وغيرهما من الأذرع الاقتصادية والايديولوجية للحركة الصهيونية. وخلال عقدين، تحوّل البيت إلى بؤرة لموسيقيي الاستشراق الإسرائيلي ومن يقبل المشاركة معهم في هذا البازار الاستشراقي.

«مهرجان العود» سيرك أيضاً في استغفال المشاركين لأنفسهم، وفي نوع الجدل الذي يثار حول «مهرجان العود الصهيوني»، بل حتى في انسحاب بعض المشاركين الفلسطينيين منه. أحد هؤلاء (حسام حايك) انسحب لأنّ ناشطة أميركية راسلته وشرحت له خلفيات غائبة عنه، فأقنعته بالعدول عن المشاركة وفق بيان وزّعه على الصحافة. أيّ مستوى من الوعي هذا الذي يحتاج إلى ناشطة أميركية لتشرح له قضيته، والضرر الذي تلحقها المشاركة في مهرجان مماثل؟ «النجمة» الأخرى في المهرجان أمل مرقس تبدو مشاركتها منسجمة مع تاريخها، فهي تدافع عن مشاركاتها الدائمة في مناسبات إسرائيلية. وقد ظهرت أغنياتها سابقاً ضمن ألبوم «موسيقى من إسرائيل». يعرض برنامج «المهرجان» هذا العام بعض مشاركيه المخضرمين مثل تيسير إلياس وفرقة «ترشيحا» (أحد القائمين عليها صرّح بأنّ مشاركتها في المهرجان تأتي ضمن حفاظها على التراث العربي الأصيل!).
تدنّي المستوى الفني للمشاركين الفلسطينيين يبدو جلياً في مقابل تفوّق الإسرائيليين والفنانين الآتين من العالم، ولا سيما الأتراك منهم . ولعله الخيار الوحيد أمام «مهرجان العود» الذي أراد إكمال السينوغرافيا الاستشراقية التي يصبو إليها من خلال هذه المشاركة الفلسطينية الرديئة المستوى. في سيرك العود، يؤدي المغنّون أعمالاً لأم كلثوم وعبد الحليم وعبد الوهاب و«الطرب الأصيل». أجواء من التعايش الكاذب في «بيت الكونفدرالية الصهيوني»، بينما يفقد أهل القدس بيوتهم بفضل سياسات «بلدية القدس»، التي تمارس التطهير الثقافي المتقن لاستكمال أسرلة المدينة. هكذا إذاً، فالمحو المستمر للتاريخ والهوية الفلسطينية العربية سيجري على وقع تقاسيم رديئة، وعلى إيقاع موسيقيين أتراك فقدوا الذاكرة، وعلى خلفية تراث أندلسي تسطو على معناه الإنساني الذهنية الاستعمارية الإسرائيلية.
في سيرك مماثل، نشاهد «احتفاءً» صهيونياً بأغنيات موسيقيين وطنيين كأم كلثوم، وعبد الحليم، وعبد الوهاب، وفريد الأطرش ونزعهم من سياقهم الوطني التحرري وزجهم في موسيقى الاثنيات. وعلى هذا المنوال الرث، هل سيصل الدور إلى الأغنية الثورية العربية وتراث الشيخ إمام مثلاً؟ وهل ستصدح إحدى المُنشِّزات هناك بأغنية «يا فلسطينية» لذواقة الجمهور الاستيطاني؟ وهل سيقال وقتذاك إنّنا متشددون، لا نفهم «إنسانية» الموسيقى التي هي «فوق السياسة» بل فوق الإنسان نفسه؟ وإنّنا مجرد متعصبين لا ندرك نبل مقاصد «البيت الصهيوني»، وبقية البيوتات الاستعمارية الكريمة؟ لا حدّ للخيال الاستعماري ولرغباته في القفز على التاريخ ومصائر ملايين من ضحاياه، فهؤلاء لا حقوق لهم، ولا لزوم لهم أصلاً وفقاً لهذا الخيال!