الجرائم الفظيعة قد تحرّك الوحوش الضارية القابعة في أعماق الوعي الجماعي. أمام هول الصدمة تستفيق الآلة الجهنّميّة لتعمّم عواقب الفعلة الآثمة التي ارتكبها فرد معزول، على أهله وعرقه ودينه وأبناء جلدته و... «الغرباء» أجمعين! هذا الانفلات الهستيري تشهده المجتمعات النامية والمتطوّرة التي اجتازت أشواطاً مهمّة على طريق الرقيّ الحضاري، والسلم الأهلي، واحترام القيمة الإنسانيّة، والاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، ونضج الأفراد وتقدّم الوعي في الدولة المدنيّة، دولة القانون والمؤسسات المنفصلة تماماً عن المؤسسة الدينيّة...
فكيف بالأحرى حين يتعلّق الأمر بمجتمع مأزوم مثل لبنان، مصاب بالازدواجيّة بين انفتاح مزعوم من جهة، وتخلّف تربّيه القوى المهيمنة وتعزّزه البنى السائدة؟ لكن الفرق أن في المجتمعات المتطوّرة تحتكم إلى قواعد عقلانيّة، وتقاليد مدنيّة، ومؤسسات تضبط الأهواء والغرائز والجنوح إلى التطرّف... وأولى هذه المؤسسات هي الصحافة، غير الصفراء طبعاً.
دور الصحافة في هذا النوع من المآسي، هو كل شيء إلا التهويل والتضخيم والتحريض. أمام جريمة بشعة ذات طابع فردي، من شأنها أن تأخذ أبعاداً وطنيّة، واجب الإعلامي هو التعاطي بحياء ومسؤولية مع اللحظة الإنسانيّة الصعبة. القاعدة هي احترام جراح أهل الضحيّة وخصوصيّاتها وحميميّتها، وتجنيب الجمهور المظاهر العنيفة والجارحة والشتائم العنصريّة، وما إلى ذلك من ردود فعل تعبّر عن ضعف إنساني في لحظة الفاجعة. كل تلك القواعد ضرب بها مارسيل غانم وفريقه ومحطّته عرض الحائط للأسف، في حلقة الخميس الماضي من «كلام الناس» التي تناولت على lbc جريمة الاعتداء البشعة على الشابة المغدور بها ميريام الأشقر في منطقة ساحل علما. انتظرنا أن يطلّ مارسيل هذا الأسبوع ويعتذر من المشاهدين عن التحقيق المخجل والمقلق والمسفّ الذي أساء إلى أهل الضحيّة وذكراها، وإلى صورة المحطّة وجمهورها. وإلى المهنة عموماً. انتظرنا أن تعتذر إدارة lbc من مشاهديها، هي التي لا نعرف عنها ميلها إلى التحريض العنصري، أو رهانها على الخطاب الانعزالي والمتطرّف الذي تركته لمنابر أخرى، أو سعيها إلى الاتجار بجراح الناس وبؤسهم لرفع نسبة المشاهدة. توقّعنا أن يصدر عن «المجلس الوطني للإعلام المرئي والمسموع» بيان يذكّر بقواعد اللعبة، وهو الذي لفت النظر مراراً في الأشهر الأخيرة بمواقفه... ضدّ الحريّات العامة (!). تمنينا أن نسمع مواقف معترضة في أيٍّ من المنابر الإعلاميّة المحترمة في لبنان... لكن سدى.
كأن ريبورتاج فيليب أبو زيد الذي قدمه البرنامج بديماغوجيّة مذهلة، لم يستفزّ أياً من ليبراليّي وطن العسل والبخور. لم يُصدم أحد بتعليقات الصحافي لحظة الـ«زوم» على التابوت الأبيض: «ميريام الأشقر بطريقها عَ درب السما، ما كانت عارفة انه في وحش ناطرا تيسرق منها أحلام العمر والجمال... ولبنان الحلو اللي صار مسرح للغربا عم يسرحوا ويمرحوا فيه من دون رادع». لم يُصدم أحد بقلّة حياء الكاميرا المسلّطة بإلحاح مشبوه على وجوه أفراد العائلة المجروحة، العاجزة عن ضبط أعصابها، والسيطرة على الأهواء والغرائز التي تعتمل في لاوعيها الجماعي، وسط حالة الذهول والغضب التي تلفّها. وهي لا تلام في قلب الفاجعة، رغم الكلام المخيف والخطير الذي بدر عن بعض أفرادها. من الهجوم على «الغرباء» الذين اقتحموا ديارنا الوادعة، إلى ربط الشر والجريمة بالغريب، إلى عنصريّة مباشرة ضد الشعب السوري بسبب هويّة المتهم بالجريمة البشعة. هكذا صار السوريّون شعباً من المغتصبين والقتلة، على أرضنا الطيّبة، ونحن الضحايا طبعاً. عجباً: كنا نظنّ أن هذه الشريحة السوسيو ـــــ طائفيّة في لبنان قلبها على الشعب السوري، ومدافعة عن «حريّته»! بل وصل الأمر إلى تبرير وتحليل اغتصاب وقتل «فتاة تسهر في الجمّيزة» ـــــ بنحو غير مباشر طبعاً ـــــ مقارنة بأخرى تحمل مسبحتها وتمضي إلى كنيسة الضيعة (كما كانت حال ميريام المأسوف على شبابها).
بعد عشرة أيّام، ما زلنا نسأل: كيف أمكن إعداد هذا التحقيق وبثّه؟ المسؤوليّة تقع على عاتق الإعلامي الذي يختار، وينقّح، ويشذّب، ويهذّب، أميناً على الحقيقة دائماً، لكن أيضاً مؤتمناً على قيم إنسانيّة ووطنيّة أهم من السبق الصحافي. مِن شاهد على مأساة إنسانيّة، تطرح أسئلة اجتماعيّة وسياسيّة وقانونيّة مشروعة، تحوّل البرنامج، رغماً عنه في اعتقادنا، إلى جهاز تعبئة وتحريض طائفي وعنصري... يروّج للـ«كزينوفوبيا» أو رهاب الغريب هذا المرض اللبناني العريق («الغريب» ليس الفرنسي ولا السويدي طبعاً). نحن هنا أمام سؤال أخلاقي يميّز في النهاية مشروعاً عن الآخر: هل نختار ضبط الأعصاب دفاعاً عن الحس المدني والاستقرار الأهلي والكرامة الانسانيّة؟ أم الحوربة على وقع العشائر والطوائف والجماعات المنغلقة على نفسها، خارج الوطن، خارج العالم، خارج الحضارة...؟