الديكاميرون، ميلاد النهضة من الموت«كان الأسى والبؤس عظيمين في مدينتنا، حتى إن سلطة القانون، سواء الإلهي أو البشري، انهارت واختفت تماماً... وصار مباحاً لكل امرئ أن يفعل ما تمليه عليه أهواؤه. يقولون إنه ليس هناك دواء أفضل من الهروب من الداء، كما لو أن غضب الرب الذي يضرب جور البشر بهذا الوباء لن يصل إليهم». هذا ما يأتي في كتاب «الديكاميرون» (1353) للكاتب الإيطالي جيوفاني بوكاشيو، والذي يعدّ درّة أعماله وكوميدياته البشرية. الكتاب الذي نقله إلى العربية المترجم الراحل صالح علماني («دار المدى» - 2006) هو عبارة عن مئة قصة، تُحكى في عشرة أيام في فلورنسا حيث الموت الأسود أو الطاعون يحلّ بكل أوروبا بين عامَي 1347 و1352، متسبّباً في موت ما يزيد على ثلث سكّان القارة العجوز.
يحكي بوكاتشو عن امرأة كريمة النسب سقطت صريعة الطاعون، وكان يرعاها خادم ذكر، ولم يكن يخالجها أدنى هاجس تجاه أن تظهر أي جزء من جسدها بحرية أمامه كما لو كانت تتصرف أمام امرأة من جنسها. وفي هذا تفسير مبطّن للسبب الذي جعل النسوة اللاتي شفين من المرض، أقلّ عفّة بعد ذلك، على الصعيد الاجتماعي!.

«فينوس في وضح النهار» لغايا ماريا نجيم (أكريليك على كانفاس - 2018)

«لقد تشكلت ملامح الإنسان العصري داخل بوتقة الموت الأسود»، يقول فيليب زيغلر في كتابه «الموت الأسود» (1969). فقد كان لعجز الكنيسة عن توفير الحماية للطيبين والأخيار، أثر واضح في إلحاق الضرر في سلطتها، وتمهيد الطريق أمام جهود الإصلاح، وكسر التابو الخاص بإظهار الجسد. عاد العري الوثني إلى الظهور مجدداً، حيث وضع الطاعون الشخصية في بعد فيزيقي بجعله الأشخاص أجساداً مجرّدة من أي معنى آخر، وفق الأكاديميّة الأميركيّة كاميلي باليا في كتابها «أقنعة جنسية» (دار التنوير - ترجمة ربيع وهبة). وأزاح فن النهضة وشاح الأخلاقية عن الجسد وعادت الروح الإغريقية القديمة في الرسم والنحت كما يذكر ساندرو بوتيتشيللي في «ميلاد فينوس» (1485).

الطاعون الاجتماعي
في ما يخصّ جسد المرأة، اجتاح الطاعون الاجتماعي عقولنا، وأصبح ذلك الجسد مفرغاً من أي بعد فيزيقي إنما هو محمّل فقط بالدلالات الجنسية البحتة، بدليل على ذلك الظواهر الاجتماعية المنتشرة في مجتمعاتنا كالتحرش، والاغتصاب، إضافةً إلى الغلمانية المتمثلة في زواج القاصرات. إن العامل المشترك بين تلك الظواهر هو جسد المرأة، أو بمعنى أدقّ النظرة إلى جسدها، التي تصل إلى حدودها القصوى في ظاهرة التحرّش الجنسي التي تعدّ هي الأشرس والأشد فتكاً بقيمة المرأة، لتفشّيها أوّلاً، ولمحاولات تبريرها بطرق عدّة ثانياً!
نستطيع القول إن مصر الخمسينيات والستينيات كانت في أمان من ظاهرة التحرش الجنسي، حتى دخلت مرحلة الانفتاح الاقتصادي الذي تبعه بالضرورة انفتاح ثقافي رجعي، تمثل في تصدير خطاب ديني متشدّد يحذّر من جسد المرأة وكأن الشيطان يتمثل به حاملاً كل شرور العالم. حينها، بدأ يتبدّل الزي ويتخذ مظهراً أكثر محافظةً و(ستراً) وتم الترويج لمفهوم العورات التي لم يستثنَ منها سوى الوجه والكفين، وخرج على المنابر بعض رجال الدين للمناداة بأنه كلما كانت المرأة أكثر حشمة كانت أكثر شرفاً وعفةً. ومع هذا التوجه الديني الذي صاحبه توجّه اقتصادي أحدث طبقية اجتماعية، وإفقار لقطاع عريض من الشعب، ما ساهم في تأخّر سنّ الزواج، وتحميل كاهل المواطن بأعباء اقتصادية جعلته عرضةً أكثر للكبت الجنسي، ظهرت السينما المصرية في الثمانينيات بمرحلة أفلام المقاولات، والأفلام التي تلعب على الجانب الإغرائي الرخيص، والتعامل مع الجسد الأنثوي بكونه أداة جنسية للإغراء عوداً إلى الرجعية التي كانت تستخدم رقص الجواري لإغراء السلطان وإثارته.
انتهى الحال بدعوى أكثر رجعية تشير إلى أن اللبس الفاضح للمرأة هو سبب التحرش، بالرغم من أن حوادث التحرش تتعرض لها معظم الفتيات من كل الطبقات على اختلاف طريقة اللبس. ثمّة إشارة أخرى، تتمثّل في الدعوى إلى أن البعد عن القيم الدينية هي السبب في تلك الظاهرة، ولو أن هناك عدداً من متّهمي التحرش الجنسي هم من رجال الدين.
ولعلّ الدعوى الأكثر سخرية تكمن في أن التحرش سببه الرئيسي هو الكبت الجنسي لدى الشباب الذين يتعرّضون لاستفزاز الفتيات لهم، وهذا الادعاء يصيبنا بحيرة حين نرى الأطفال دون العاشرة يتحرشون بالفتيات في الأعياد والأماكن المزدحمة! يشكّل الاغتصاب التطور الفجّ والوحشي لتلك الظاهرة المرضية التي اجتاحت مجتمعنا، وإن كنت أعتقد بأن السبب الرئيسي لكل الجرائم المفتعلة في حق المرأة هو تلك الرؤية القابعة داخل العقل الجمعي لجسدها واعتباره أداة للمتعة الجنسية، وتسليعه في إطار الملكية بما يتناقض مع نظرة معظم الحضارات القديمة لجسدها. تعاملت بعض تلك الحضارات مع جسد المرأة بكونه مقدساً، بداية من مصر القديمة مروراً باليونان والرومان، حيث كانت معبودة مقدّسة في مصر كإيزيس مرشدة الأرواح، والزوجة المخلصة، والأم الحنون، وتجلّت في اليونان كهيرا ربة الزواج والحمل والرضاعة والتربية، وفي روما كفينوس رمز الجمال والحب.
قُدّست المرأة في جميع الحضارات، حيث إنها تمنح الحياة فهي من تلد، تستدير بطنها كأكمل الأشكال (الدائرة) وتمنح طفلاً حياة في الأرض، حتى الأيام القمرية للمرأة كانت مقدسة، فهي الكائن الذي ينزف الدم بشكل شهري ولا يفقد الحياة!
مع سير التاريخ الإنساني وتمجيد الحروب وأسطرة أبطالها، ارتفعت مركزية الرجل في مقابل دنوّ قيمة المرأة ودخولها في حدود الملكية الخاصة للرجال، وبدأت الأصوات تتعالى بدناسة المرأة وعدم اكتمالها كإنسان حر. وتحوّل دورها من أمّ ووالدة إلى قيمة اجتماعية مكانها بيت الزوج ورعاية أطفاله، ومن كونها الجمال والحب إلى سلعة تثمّن وتحفظ في خزانة لإمتاع الزوج، حتى دورتها القمرية أصبحت نقصاً وعيباً وجنابة.

يبدو أن هناك نوعاً ما من قانون قائم على الملاحظة والمشاهدة بين تطوّر المجتمع وتأخّره، وبين جسد المرأة وطبيعة النظرة إليه.

ما الذي يجبر المرأة على تغطية كامل جسدها في شدّة قيظ الصيف؟
إنه الخوف من كل تلك النظرات الجائعة التي تنهش الأجساد وتنتظر الفرصة للانقضاض على ذلك الجسد!
يدين القانون الاجتماعي المرأة من دون أي ذنب، ويدين جسدها لأنها امرأة، منتصراً لكل القوانين العقلية التي تدين التحرش والاغتصاب والتحقير والتعنيف!
كما ينادي الموروث المتأصل بأن سلطة المرأة بيد الرجل: تنتقل من أب إلى زوج ومن زوج إلى ابن!

ويبقى السؤال: هل نحتاج إلى الطاعون؟
هل نحتاج إلى ديكاميرون يحكي قصصاً عن حالنا وعمّا وصلنا إليه في ظل هذا الطاعون الاجتماعي؟
أم أننا لن نتعلم أن الأجساد ما هي إلا وعاء فيزيقي: جنين ينمو، ثم يولد، ويكبر، ويمرض، ويشيخ ويموت!
ذلك الجسد ببعده الحيوي الذي يحمل عقلاً وقلباً وأحلاماً وطموحات تتعدّى الهيكل الخارجي فحسب.
هل نحتاج إلى طاعون يعلّمنا أن الأجساد كانت تُلقى جثثاً في الطرقات، ويهرب الجميع من الجميع تفادياً للموت، وما الجسد إلا جسد فقط؟