التلصّص على العالم السرّي لهاديس وكيربيروس«يضربن بالأذناب من فرح بنا/ متوسّدات أزرعاً وخدوداً» - ابن الطثرية في مديح الكلب.

خلف بوّابات الجحيم يقف كيربيروس ليحمي عالم سيده هاديس إله العالم السفلي. نظرة واحدة من عينين ذلك الكلب الأسطوري ذي الرؤوس الثلاثة، تملأ قلوب أشجع أبطال اليونان القديمة رعباً. إذ دائماً ما يكون كيربيروس متأهبّاً ضدّ أي روح تحاول الهرب من عالم الموتى، يظل مكشّراً عن أنيابه، حتى يقابله هاديس ويربّت عليه وهو يغني من كلمات صلاح جاهين: «كلبي يا كلبي يا حبيب قلبي/ تمشي ورايا تقعد جنبي/ تقعد هادي وتنام هادي/ سارح في الأحلام البمبي...». عندها، يتحوّل ذلك الوحش الغاضب إلى جرو لطيف يتمسّح بصاحبه ويهز ذيله بفرح في انتظار كرة راكيت يلقي بها سيده إليه وهو يدندن: «بس أرمي لك كورة بعيدة/ تجري وراها بسرعة شديدة/ متخيلها صيدة عنيدة...»، لتتصارع فكوكه الثلاثة وتتمزق الكرة بينهم، فيقهقه هاديس حتى يسقط على قفاه، فيهرول إليه كيربيروس، وينهال عليه بقبلات متلاحقة بألسنته الثلاثة.

فيليب شان، «كلب ببذلة»

قد يثير هذا المشهد الأسطوري المتخيّل فينا بعض الدهشة أو الابتسام، لكنها لن تفوق الدهشة التي قد يبعثها نسل كيربيروس، المخلوق البديع الوفي المعروف باسم الكلب، والذي تفنّن لأجله الأدب العربي ومنحه العديد من الأسماء التي تدلّ عليه وعلى صفاته الشكلية والسلوكية، فأُطلق على الكلب أبيض الصدر الأبقع، وأبيض العنق الأعنق، والأعقد لانعقاد ذيله، والفرني على الضخم من الكلاب، والقلطي على القصير منها، وسُمي كلاب الصيد بالعريج والطلق، وكان نصيب الكلب الراعي للأغنام اسم الوازع لأنه يزع الذئب عن الغنم، والديسم على مستذئب الكلاب.


أصل الأنواع الكلبية
«رأتني كلاب الحي حتّى ألفنني ... ومدّت نسوج العنكبوت على رحلي» - ذو الرمّة في مديح الكلب

يبسّط عالم الأحياء البريطاني ريتشارد دوكنز الأمر في كتابه «أعظم استعراض فوق سطح الأرض» معيداً الكلاب إلى أصلها الذئبي: «يبدو أن السلف البرّي لكل الكلاب المدجّنة هو حقّاً الذئب والذئب وحده» (وإن كان تدجينه قد حدث على نحو مستقل في أماكن مختلفة في أرجاء العالم). لم يفكر التطوّريون دائماً بهذه الطريقة. كان داروين والكثيرون من معاصريه يظنون أن أنواعاً عديدة من الحيوانات البرية في عائلة «كانيدي» (الكلبيات) بما في ذلك الذئاب وأبناء آوى قد أسهمت باعتبارها سلفاً لكلابنا المدجّنة. يتّخذ هذا الرأي نفسه عالم سلوك الحيوان النمسوي الحائز «جائزة نوبل»كونراد لورنز. ثم يحسم دوكنز الأمر في الكتاب نفسه مؤكّداً على أن الأمر «ظلّ مفتوحاً حتى وفدت أدلّة الوراثة الجزيئيّة لتحسمه. لا يوجد الآن أيّ شك في أن الكلاب المدجّنة ليس لها أي سلف من أبناء آوى على الإطلاق. سلالات الكلاب كلها ذئاب معدّلة: ليست بأبناء آوى ولا قيوط ولا ثعالب».
وكما تطوّرت الكلاب عن الذئاب على المستوى البيولوجي، فلقد طوّرت كذلك أنماطها السلوكيّة والاجتماعية عن أنماط الذئاب. مثلما يعتمد سلوك الذئب على علاقاته الاجتماعية الخاصّة بالمجموعة الواحدة، يعتمد سلوك الكلب على علاقته بصاحبه الذي يمثّل بالنسبة إليه مجموعته الوحيدة. هناك أيضاً سلوك اللعب والمرح. على عكس ما يشاع عن الذئاب، فإنها تمارس اللعب والمزاح، كما أن الحذر من الغرباء وانتصاب الآذان كإشارة للتأهّب هو سلوك ذئبي، حتى المنظومة الصوتية للكلاب تتشابه مع سلفها من الذئاب في الكثير من الأصوات مثل الزمجرة والعواء والعويل. ولقد وعي الذئب أن عليه أن يبتعد عن مناطق الإنسان وتجمعاته، فابتدأ الإنسان يتحدّث عن نفور الذئب، هكذا تولّد لديه الحذر والخبث وحب البقاء، كما يعرض الدكتور فضل بن عمار العماري في كتاب «الذئب في العلم والتاريخ». ومن هنا نستطيع القول إن الكلب ما هو إلا ذئب قرّر التخلي عن حذره وأحبّ الإنسان.


استئناس أم أنسنة؟
«ربما أغدو معي كلبي/ طالباً للصيد في صحبي.. فسمونا للحزيز به/ فدفعناه إلى أظب » - أبو نواس

إن غرامنا بالحيوانات المستأنسة وخاصة الكلاب، ليس سببه الاستئناس نفسه، أي حين أزال الإنسان وحشتها وألفها وصاحبها، إنما لأننا سقطنا في فخ أنسنتها. لقد سلّمنا أنفسنا للتماهي مع سرديّة سليمان فأصبحنا نفهم لغة الكلب ونتواصل معه، ولكن تلك العملية لا تحدث بمعجزة نبي أو بحكمة ملك، بل تحدث برهافة القلب الذي، وبمجرد أن نطلق اسماً على الكلب نشكّله وجدانياً بصفات إنسانية، فنعتقده يرى الأشياء كما نراها، ويشعر عاطفياً كما نشعر، فيتجاوز مملكته الحيوانية وأمته الكلبية، ويصبح أحد أفراد العائلة.
فالاستئناس ليس سبب المحبة، بل الأنسنة، فكثير من الحيوانات المدجّنة المستأنسة لا ترتقي لتلك المرتبة من الحب التي ينالها الكلب كالدجاج والماشية مثلاً، كما أن الكثير من الحيوانات البرية غير المستأنسة تخلق بينها وبين صاحبها ارتباطاً وجدانياً عميقاً، ونستطيع أن نرجع ذلك إلى ما يمكن أن ندعوه بالسقوط في فخ الأنسنة.
ولكن تبقى علاقة الكلب بالإنسان علاقة ذات خصوصية واستثنائية، فبالنظر إلى تاريخ تلك العلاقة يمكننا أن نعتبر الكلب شريكاً أساسياً في الحضارة الإنسانية. فالبشري الذي عرف حياة الصيد، اتخذ من الكلب رفيقه في رحلاته، ولما انتقل إلى الزراعة والرعي كان الكلب راعي ماشيته، ولما قامت المجتمعات ساعد الكلب في تقفي أثر المجرمين، ولم يقتصر الأمر على ذلك. ففي الحروب كان للكلب أدوار استكشافية وتكتيكية، كما شارك في صناعة السينما والمسرح، غير المساعدة في رعاية المرضى والأطفال، واشتراكه في فرق إنقاذ تكافح ضد ويلات الطبيعة مثل الانهيارات الجليدية والزلازل.
دفاع عن الكلب
في كتابه «الحيوان» يُفرد الجاحظ العديد من الفصول والأبواب في ذكر فضائل الكلب من دلائل كرمه، وذكائه، ووفائه، ومن باب الدفاع عن الكلب يخبرنا: الكلب يكفي نفسه ويحمي غيره، ويعول أهله، فيكون لصاحبه غُنمه، وليس عليه غُرمه. ولما يرمح (يرفس) الدواب الناس، ولما يحرن ويجمح، وتنطح وتقتل أهلها في يوم واحد، أكثر مما يكون من جميع الكلاب في عام. والكبش ينطح فيعقر ويقتل، من غير أن يُهاج ويعبث به. والبرذون يعض ويرمح من غير أن يُهاج به ويعبث. وأنت لا تكاد ترى كلباً يعض أحداً إلا من تهييج شديد، وأكثر ذلك أيضاً إنما هو النباح والوعيد.
في مقارنة بين الكلب وكل الدواب، يُنصف الجاحظ الكلب ويمنطق تصرفاته كردة فعل طبيعية نتيجة لما أثاره من تهييج. وغالباً ما تكون تلك الردة مجرد النباح والوعيد فقط، عكس الدواب الأخرى التي تنطح بلا وعي أو عقل، لهذا يبدو أن الجاحظ أيضاً قد سقط معنا في فخ أنسنة الكلب في دفاعه عنه.
ويتأكّد ذلك أيضاً في باب تأويل آية أصحاب الكهف، في كتاب «الحيوان» حيث يؤول النص: «أو في الآية: (ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) دليل على أن الكلب رفيع الحال، نبيه الذكر، إذ جُعل رابعهم، وعطف ذكره على ذكرهم، واشتق ذكره من أصل ذكرهم، حتى كأنه واحد منهم، ومن أكفائهم أو أشباههم، أو ما يقاربهم، ولولا ذلك لقال: سيقولون ثلاثة معهم كلب لهم. وبين قول القائل: معهم كلب لهم، وبين قوله: رابعهم كلبهم – فرقٌ بيِّن، وطريق واضح». يأنسن الجاحظ كلب أصحاب الكهف، ويعلي مكانته ويجعله شريكاً أساسياً في الحدث، يشاركهم كهفهم ويحاول حمايتهم وينام باسطاً زراعيه بالوصيد، ليكون معهم آية عجباً.
نستطيع أن نرى الكلب في حياتنا كموتيفة جماليّة تتكرر عبر التاريخ الإنساني، أقرب إلى تيمة لحنية ثابتة عن التضحية والوفاء، الحب والصداقة، نمتنّ إلى الكلب حيث كان شريكاً وملهماً، روبار صديق فاغنر وشريك الموسيقى، أتما صديقة شوبنهاور وشريكة الفلسفة، وهاتشيكو الياباني رمز الوفاء ولايكا رائدة الفضاء شهيدة العلم، وأمتن أيّما امتنان لصديقي مارلي وشريكي في هذا الدفاع، ليكون دفاعاً عن الكلب.