أطلقت منظمة «UFC» أخيراً، وهي المنظمة التي ترعى «رياضة» الفنون القتالية الحرة والتي تنظم مباريات قتالية تحمل الاسم نفسه «UFC» المشهورة بشراستها وبعنفها، كياناً موازياً لها ويدعى «Power Slap»، أو «القتال بالصفعات». اللعبة، تشترط ببساطة، أن يقوم المتسابقون بصفع وجوه بعضهم بالتبادل، ومن يسقط أرضاً يخسر، أي من يطرح المنافس الآخر أرضاً من خلال قوّة صفعته يربح. «اللعبة» تشبه إلى حدّ بعيد لعبة الـ«UFC» في الشراسة والعنف، وتشبه أيضاً لعبة المصارعة الحرة أو الـ «wwe» من ناحية التصوير والإخراج حيث الرهان على المتفرج العطش لمشاهدة العنف كثيراً، على هذا النحو، يمكنك بفضل تقنية التصوير البطيء، الـ«slow motion»، الذي يقوم المخرجون بعرضه بعد كل «صفعة»، أن ترى وجه المتسابق يتحطم، وأن ترى بالتحديد كيف يتحطم وجه اللاعب.ما تدلّ عليه رياضة «القتال بالصفعات» هو أن التكلفة الجسدية والنفسية جرّاء كونك رياضياً مروّعة، إذ يعاني الرياضيون من أضرار هائلة لأجسادهم، ويفقد بعضهم سنوات من حياته بسبب الإصابات، وهو ما يطرح علينا أسئلة عدة هنا: لماذا يضحّي الرياضيون بأنفسهم؟ هل يجري هذا من أجل الجماهير أم المال؟ أم أن الأمر يتجاوز المنحى المادي ويتعلق بخلق معنى فردي في ظل النظام الرأسمالي؟


أنت لست إنساناً، أنت رقم، منتج، قيمة طالما يمكنك الأداء. وإذا لم تتمكن من الإنتاج فأنت عبء وسوف يسقطونك. هذا هو النظام الاقتصادي للرأسمالية الذي يحرم الناس من المعنى بسبب الدافع المتأصل لتحويل الجميع إلى أفراد، وكل الأشياء إلى سلعٍ. إن المشجعين الرياضيين ينتجون شيئاً، ما ينتجونه هو الانتماء إلى النظام، ولكن هناك تكلفة لإنتاج هذا المعنى المشروط بالانتماء لهذا المجتمع، ويتم دفع كلفته من خلال التضحية بجسد الرياضي.
هذه ليست ظاهرة فريدة من نوعها تماماً. جميع العمال في المجتمع الرأسمالي يشعرون بالعزلة بطريقة أو بأخرى. وعندما يتعاقد العمال بعد وقتٍ طويلٍ من بيع عملهم مقابل أجرٍ، يفقدون الاتصال بقدرتهم على العمل وبما يصنعونه، هكذا يتّضج أن إنتاج أجساد العمال، وإيقافها وتعطيلها، هو من أدوات الرأسماليّ. ومع ذلك، بينما يعمل الرياضي مثله مثل غيره من العمال لصالح مالك الفريق (الرأسمالي) فإن هناك شيئاً مختلفاً في الطريقة التي يتم بها انتهاك جسد الرياضي. فالأخير (أي جسد الرياضي نفسه) هو المُنتَج، هو موقع الاستثمار للرأسماليّ، وسلعة استهلاك لآمال وأحلام وغالباً لسوق المراهنات يقوم بها المشجع/ المُستهلك.
إن التضحية التي يقدمها الرياضي لهو أمر أساسيٌّ في مجال الرياضة الاحترافية. وهذه ليست حجّة معقدة من وجهة نظر اقتصادية. لكي يتمكن أصحاب هذه الأنواع من «الرياضة» من تحقيق الربح، فإنهم يطلبون من المستهلكين شراء السلع التي ينتجونها أي: الأحداث الرياضية التي يعرضونها. وقد تأتي هذه الأموال من مصادر مختلفة. تشكل مبيعات التذاكر جزءاً كبيراً من إجمالي الإيرادات. ومع ذلك، سواء كان الأمر يتعلق بعقود الحقوق الكبيرة التي تمنحها شركات تلفزيون أو شركات دعاية وإعلان، فإن النتيجة النهائية تظل كما هي: إن عمل الرياضة الاحترافية يتوقف على رغبة المشجعين في استثمار المعنى الذي خلقوه لأنفسهم بأنفسهم، وأموالهم في اللعبة التي يتابعونها.
لذا إن الضرر الذي يتعرض له الرياضيون في لعبة مثل «Power Slap» ليس من قبيل الصدفة، فهو مولّدُ للمعنى الذي يتلقاه المتفرجون إزاء مشاهدة الضرر والتلذذ به، والاستثمار فيه. إنه جزء ضروري ما يجعل الرياضة سلعة مرغوبة لدى الجماهير المستهلكَة. في الواقع، يشترط على الرياضي أن يكون على استعداد للتضحية بجسده حتى يتمكن المشجع من القيام بالاستثمار (العاطفي والمالي) في المقام الأول. إن تجربة وتداعيات الإصابة الرياضية - والمدى الكامل للاستغلال المتأصل في الرياضة الاحترافية - ترتبط ارتباطاً مباشراً بتجارب المشجعين.
وتوضح تجربة «Power Slap» الكثير عن «العمل» الرياضي، أو الرياضة كمهنة، وخصوصاً في ضوء دراسة الديناميكيات الاجتماعية لهذه الأنواع من العمل. حيث تعتبر المشاهدة هي عملية تشكيل للهوية. علماً أن العضوية في مجتمع المُشجعين هي اختيار بالرغم من أنها تتم في سياق الرأسمالية النيوليبرالية. وهذا السياق مهم لفهم ضرورة شعور الكثير من الذين ينتمون إلى مجتمعات المُشجعين الرياضيين («الأولتراس» مثلاً). إن الرأسمالية النيوليبرالية تتميز، إلى حد كبير، بعزلة الناس، وفي تغريبهم داخل نظام يسعى بلا هوادة إلى إضفاء الطابع الفردي عليهم باعتبارهم فاعلين في السوق. وهذا الترتيب للعلاقات الاجتماعية ينتج رغبة قوية، بل حاجة، لعلاقات تحمل معنى، واتصالاً إنسانياً لا يكون وسيطه اقتصادي. باختصار، فالنظام الرأسمالي ينتج جوعاً مؤلماً عند المجتمع، ويُغذيه بالأشكال الأكثر رمزية وبعداً عن«الحقيقة». لذا ازدهرت الرياضة الاحترافية لأنها تقدم شيئاً مرغوباً فيه بشكل خاص في السياق الرأسمالي وهو: إمكانية تشكيل معنى في المجتمع.
إن تشكيل الهوية الجماعية، أو المعنى، من خلال قاعدة المُشجعين هو صورة لـ«المجتمع المتخيل»كما يسميه بنديكت أندرسون، وهو مجتمع يتكون من مجموعة أشخاص يتشاركون في الأعراف والخصائص الثقافية، حتى لو لم يكن للأفراد المعنيين علاقة ملموسة مع بعضهم. ومجتمع المشجعين المتخيل قائم على المشهدية (مُجتمع فُرجة) من حيث أنه يقدم للناس صورة للمجتمع الذي يرغبون فيه. هذا النوع من المجتمع قد يمنع في الواقع تطوير علاقات حقيقية وملموسة بين الأشخاص. وبدلاً من ذلك، فهو يوحّد الأشخاص من خلال الولاء المشترك للأشياء الرمزية، مثل الزيّ الرسمي، والتذكارات، وما شابه ذلك.
في الواقع، يتم إنتاج المجتمع الرياضي المتخيل من خلال «تضامن الشعار» كما يسميه باول غيلروي، وتعد فكرة «تضامن الشعار» مفيدة لفهم كيفية صياغة مجتمع المشجعين المتخيل والحفاظ عليه. فإذا فكر المشجعون جدياً في حقيقة أن الفريق أو الرياضي الذي يدعمونه هو عمل تجاري مصمم لانتزاع أكبر قدر ممكن من دخلهم الذي حصلوا عليه بشق الأنفس، وإذا فكروا في مدى عدم العقلانية في حث الرياضيين على تدمير أنفسهم، فسيكون من الصعب الحفاظ على تجربة القاعدة الجماهيرية. وبالتالي، فإن الإحساس بالمعنى، والانتماء المكتسب من خلال القاعدة الجماهيرية ضروريٌّ. ولأن القاعدة الجماهيرية لا تقوم في كثير من الأحيان على علاقات اجتماعية فعلية، فلا بد من تجديدها مراراً وتكراراً من خلال توليد ألعاب جديدة، مثل حالة لعبة «UFC» وخلفها لعبة «Power Slap».
إن الرياضة هي شكل من أشكال العمل الاجتماعي لإعادة الإنتاج حيث يصبح جسد الرياضي وعاء للمعنى الذي يدعم الإنتاج الرأسمالي والاقتصاد السياسي للرياضة. إن التضحية، أو التضحية المحتملة، بجسد الرياضي تشكل عنصراً مهماً في جاذبية المشاهدين، لأنها تصنع مخاطر عالية بما يكفي لتبرير الاستثمار العاطفي والاقتصادي. لذا يجب أن يكون الرياضيون على استعداد للتضحية بأجسادهم من أجل الحفاظ على خيال المجتمعات الرياضية المتخيلة. كما يعد توفير معنى ليستهلكه الجمهور ضرورياً للتعويض عن الآثار اللاإنسانية للرأسمالية، ويصبح الرياضيون جزءاً من إعادة إنتاج القدرة العاطفية للمتفرج. ويتيح هذا العمل للمشاهد/العامل (المُشجع المستهلك) مقاومة العزلة والإحباط ما يجعله قادراً على تزويد النظام الرأسمالي بالعمل الإنتاجي الأمثل الذي يطلبه.