ألَّا نأخذ العالم على محمل الجدّ وأن نتعامل معه على أنه مجرد مزحة، سواء أكانت لطيفة أم سخيفة، ولكن نقترب من تلك المزحة التي يخبرنا إياها –بشكل جاد- فريدريك نيتشه في كتابه «هكذا تكلم زرادشت». لقد روى لنا نيتشه قصة ذلك البهلوان الذي يسير على الحبل فيما الساحة مكتظّة بالناس الذين ينتظرونه ليبدأ عرضه، وحين مرّ عليهم زرادشت وأخبرهم بنبأ الإنسان المتفوّق وراح يخطب فيهم ارتفع صوت من الحشد قائلاً: «كفانا ما سمعنا عن البهلوان، فليبرز لنا الآن لنراه»، فضحك الجميع على زرادشت وتقدّم البهلوان وهو يعتقد أنه موضوع الحديث.
ستيفانو بالارا

إن الإنسان يرى التفاهة في كل شيء من حوله. يشعره ذلك بأنه محاصر، ويدفعه ذلك الحصار أحياناً بألّا يأخذ العالم على محمل الجد. فهو يعيش في نظام اجتماعي تسيطر عليه طبقة من الأشخاص التافهين حتى إنه تتّم مكافأة التفاهة، على هذا النحو، تسود السطحية والابتذال، ما أفقد الأشياء معناها ودلالتها. وكأنّ هذا النظام يجعل من كل الأطعمة طعماً واحداً فيختفي الحلو والمر، المالح والحمضي، حتى الطعم الحرّيف يختفي أيضاً ولا يبقى إلا طعم الخيار التافه.

أحاديث تافهة
يمكننا معرفة المرء عندما نعرف أحاديثه مع الآخرين. نحن البشر لا نتفوّق على باقي الكائنات بالعقل فقط، إنما بقدرتنا على أن نصوغ ما نفكر فيه وما نشعر به في منظومة كلامية تعبّر عمّا يدور في أذهاننا من أفكار، وما يعتمل في وجداننا من مشاعر. فالكلام سر الإنسان إذ يمكن للكلمات أن ترتقي فتصبح حديثاً أو تتدنّى فتصبح ثرثرة.
وحينما نتشارك الحوار مع الآخر، سواء أكان حديثاً جاداً أم ثرثرة عابرة، يبقى مقياس التفاهة هو مدى التفاعل الصادق بين المتكلمين. إن الثرثرة النابعة من مشاعر حقيقية بين صديقين والتي تدور حول سعر الطماطم مثلاً يتخلّلها المرح واللطف فتكون أكثر صدقاً من حديثٍ جاف ومبتذلٍ يحاكي مواضيعَ كبيرة مثل أصل الحضارة الإنسانية. فالتفاهة تنبت في الجفاء وتترعرع في الابتذال.
يتلقّى الإنسان سيلاً من الأحاديث التافهة في حياته اليومية سواء في منزله بين أفراد أسرته أو في بيئة العمل مع زملائه، كما يقابلها في المواصلات العامة ومع الباعة الذين يشتري منهم حاجاته. قد يضطر المرء إلى خوض تلك المحادثات بشكل يومي مهما كان مدى تفاهتها، تلك المحادثات التي يمكن أن نطلق عليها الكليشيهات الكلامية، مثل عبارات المجاملة والشكر التي تقال بشكل تلقائي فارغ من المعنى، أو الحديث الروتيني حول سير العمل أو تأخر الحافلة صباحاً، تلك الكلمات الخالية من التفاعل الصادق هي إحدى المسارات الضرورية للحديث الإنساني، لكن وبالرغم من تفاهتها إلا أنه لا يمكن الاستغناء عنها، فهي تتلازم معنا بشكل ثابت، ولها أهميتها من حيث جريان النهار بشكلٍ سلس. وهو من الصعب أن يتحرّى العقل عن قصدية كل كلمة ينطق بها، إذ حتى ولو اضطررنا لخوض تلك الكليشيهات الكلامية، يبقى أنه من الضروري أن نتفادى الغرق في الأحاديث التافهة، حتى لا تتحول التفاهة إلى لغة تفكير لا يعرف المرء سواها.

السير نحو ثقافة تافهة
تتّسم ثقافة العصر بالتنوع والتباين اللذين يظهران جليّيْن في منتجاتها المتعددة. فمثلما أنتجت الثقافة لنا الإبداع الأدبي والأطروحات العلمية، خرج إلينا أيضاً ما يمكن تسميته بالنتوءات الثقافية، تلك التي تتبع نظام التفاهة مثل الكتيبات التي تحكي عن النكات المستهلكة، أو تلك الكتب المختصّة بالعلم الزائف. وبالرغم من كون هذه الثقافة في صميمها إنتاجاً استهلاكياً رديئاً، لكنها لا تمنع فضول الإنسان من اكتشافها وخوض تجربة التفاهة بغية التعرف إلى تلك النتوءات الثقافية. فتراه يستخدم إحدى النكات المستهلكة ويلقي بها في تجمع عائلي ذي أجواء مشحونة بالحدة والترقب فتثير هذه النكتة -من شدة تفاهتها- الضحك، ما يسبب تخفيف التوتر القائم. يبغي الإنسان من حين إلى آخر أن يستريح من جدية الحياة ووطأتها الثقيلة، فيعدو إلى مشاهدة فيلم تافه، أو الرقص على أغنية تافهة، أو قراءة كتاب تافه... ومن حسن الحظ أن الثقافة التافهة الملقاة حولنا لا تستدعي البحث المضني حتى نجدها، فهي منتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي، وفي دور السينما، وعلى الأرصفة، هكذا، يستطيع المرء أن يستريح من الجدية الملقاة على كاهله، ويقوم بقتل الوقت وتمريره بمرحٍ وتسلية ليتغلب على بعض الأحزان والهزائم اليومية الصغيرة. إن التفاهة تصبو أن تكون مادة رخوة للخفة، تُسقط الثقل عن كاهلنا، ومهما حاولنا عدم تبني ثقافة التفاهة إلا أنه لا يمكننا الفرار منها. أما ما هو مريح ومطمئن في الأمر هو أن الثقافة التافهة تُنسى. فالكتب والأفلام والأغاني ذات الطابع التافه تُنسى ولا يبقى منها سوى ما سبّبته من أثر عابر خفيف، وحتى ما يُعرف بالتريندات على مواقع التواصل الاجتماعي يتجدد ويتبدل ولا يظل رائجاً إلا لبضعة أيام قليلة ثم يُمّحى ولا يبقى منه إلا المشاركة التافهة المنسية. فخفة التفاهة تجعلها بلا ذاكرة.

ثقب التفاهة الأسود
يعرّف الروائي ميلان كونديرا التفاهة بأنها جوهر الوجود. فالتفاهة تقطن معنا على الدوام وموجودة في كل مكان حولنا. إنها حاضرة حتى في الأماكن التي لا يرغب أحد برؤيتها فيها: في الفظائع، في المعارك الدامية، وفي أسوأ المصائب. إن التفاهة مغرمة بنا وملازمة لنا. تحاصر وجودنا في كل الأشياء والأمكنة، ما يجعل السقوط في هوتها والغرق في داخلها أمراً يهدد الجميع. أن يكون المرء تافهاً في عصر التفاهة ذلك يعني أنه سوف يذوب ويتحول إلى تفاهة سائلة متّسقة مع تفاهة العصر. حينما يغرق الإنسان في التفاهة يصبح بلا سمة وبلا هوية إنما أقرب إلى إمّعة تكوّنت من تنويعات تافهة حتى أضحى تافهاً خالصاً. إن الغرق في التفاهة أمسى أشد قرباً الآن من أي وقت مضى بسبب الإيقاع السريع للحياة الذي يأكل الساعات والأيام ويجعل التخلص من التفاهة أمراً صعباً، ففي اللحظة التي يستغرق فيها الإنسان كلياً مع تفاهته سوف يتلاشى تماماً وتبقى تفاهة العالم من حوله، وحينها يصبح الفرار منها أمراً مستحيلاً.

ما أتحدّث عنه حين أتحدّث عن التفاهة
اختار الروائي الياباني هاروكي موراكامي لكتابة مذكّراته عنوان «ما أتحدث عنه حين أتحدث عن الجري» ليحكي تجربته الإنسانية والكتابية من خلال الجري. وجرياً وراءه اتبعه واقتبس عنوانه، مستبدلاً ثيمة التفاهة بالجري. فالتفاهة أصبحت سمة عصرية إلى الحد الذي يجعلها تُدرّس وتُكتب عنها الأطروحات ككتاب نظام التفاهة لألان دونو. الأخير ناقش نظام التفاهة الذي رأى أنه يتجلى في كل ما يحيطنا. وقد استطاع موضوع التفاهة أن يكون مصدر إلهام للأدباء، كرواية ميلان كونديرا «حفلة التفاهة» وهي أكثر رواياته خفّة. لقد أصبحنا نعيش في عصر التفاهة ونحيا فقط في محاولات متتالية لتفاديها عبر التأكيد على الاتّساق مع ذواتنا في كل فعل. نحاول أن نتحدث عن التفاهة بدون تفاهة محاولين ألا نسقط في فخّها، ويمكننا أن نتفادى حصار التفاهة لنا عندما نتذكّر دائما أن الحياة ليست كلها بطعم الخيار.

التعايش بلا تفاهة مع التفاهة
أن تكون الحياة كلها بطعم الخيار الذي يحوّل كل شيء إلى طعم تافه، وبذلك يكون العالم أُحادّي الطعم، لا صفة له ولا معنى. وأن يُنتزع طعم الخيار من الحياة، فسوف يتسبّب ذلك بمحو الخفة التي توازن سير الحياة من خلال اختفاء الخفة والعيش مثقلين بالجد الدائم والعمق المُكتشَف. في نظام التفاهة الذي نحيا داخله لا نستطيع أن نتخلص من التفاهة، لا بد من قبولها ومحاولة التعايش معها. قد يكون من التفاهة الآن إنكار وجود التفاهة وهي التي تغلّف العالم من حولنا، فلا ضير أن نستمع إلى زرادشت وهو يحدثنا عن الحكمة والفضيلة والشرف، ثم نضحك على البهلوان وهو يقوم بألعابه، لأن القليل من التفاهة لا يضر.