لتبليط البحر في المثل الشعبيّ إيحاءٌ بالعجز والمستحيل. فلا يُستخدم إلا في الحالات التي يخضعُ فيها الطلب والسؤال لعنجهية الدهر. يمكننا أن نلمس لو نحن أخرجنا رمزية هذا المثل من التأويل اليومي إلى الفهم الفلسفي عبثيةً كامنةً تماثل في بنيتها كلّ العبث الذي جسده لنا سيزيف. لقد عاقبت الآلهة سيزيف لأنه شاء أن يكون حراً مثلها، فحكمت عليه بأبدية التعب. أن يحمل على أكتافه حجراً كبيراً «كجلمود صخرٍ» ويصعدَ الجبل. كان كلّما أوشك على الوصول يتدحرج الحجر العملاق للأسفلِ «من علٍ». هكذا في محاولاتٍ لا تنتهي، لا ينبغي لها أن تنتهي، يظل سيزيف عنيداً كرأس الآلهة. للجاذبية تأثير على الصعود والنزول على الجبل، تماماً كتأثيرها على المدّ والجزر في البحر، ما يعني أن العبث يحيطك في نواة الماء واليابسة. فلا الزمان ولا المكان يعينان، ولا يعنيك أصلاً أن يعينا، ما يحدث هو أنّك ستكتشف أن معينَك هو الوعي بكل هذا. وليس من غرابة عند بطل كامو، مرسو «الغريب»، أنه كتبَ عن إحدى تجسّدات وعيه بعبثيته، مشهداً عند الشاطئ، حيث لا المقتول ولا القاتل يعنيه. إذ يكفيه الآن تململه من حرارة الشمس في البحر.
مايكل شوفال

أقول، إن الذي نحياه، جدواه أنه بلا جدوى، كالفراغ، والفراغُ جميل لولا أنه «مذنب». كالعقم، والعقم قبيحٌ، لولا أنّه لا يخلّدُ. كالدولار داءٌ جميلٌ، وحقنةٌ مُرّة، ولكن لأجله يسلبكُ اثنان: البلطجيّ الأنيق الشرير جدّاً في المصرف، والبلطجي الشعبيّ جدّاً في جوار الحيّ. إن ما نحياه الآن هو ما تحياه الهوّة حين تحتشدُ بالساقطين، بالسياسيين، بالمؤثرين الاجتماعيين، بأصحاب سمو التنمية البشرية، بالرصاص الطائش، بالرصاص المقصود، بالسالبين، بالمنافقين وبكل المعاني المفقودة.
لقد اعتبر كامو، أن وعي سيزيف بعبثية ما يفعل، وإصراره على تكراره، بمثابة تمرّد على كل ذلك العبث. فإذا لم يكن من الموتِ بدّ، فمن العار أن تموت جباناً، أليس كذلك؟ لذلك يبقى قرار التمرّد أشجع من أن تنتحر جبناً برأي كامو. وهذا ما يفسّر عدم استسلام سيزيف، أو إن شئت، عدم طلبه المغفرة. إلا إن التمرّد بالعبثية على العبثية صحيحٌ أنه لا يشبه وحشية الموت ولكنه في نهاية الأمر موتٌ رحيمٌ. إن السياسة في لبنان هي هكذا تماماً. ما تتيحه لك هو التمرّد بغية التمرد فحسب بلا أي دلالة لفعل التمرّد. تتمرّد على الوضع المعيشي بالرصاص والسلب، تمرّد للصبح عزيزي. تتمرّد بالشتائم والتحليلات على النظام اللبناني وأقطابه، لا بأس بالمزاجية أحياناً. لكن أن تتمرّد لتخلق معنى جديداً فهذا خروجٌ عن «النسق» الوطنجي، وعبثٌ لا طائل منه يودي بالبلاد إلى التهلكة الأهلية. النسق الذي إذا احتجته غير مذعنٍ، فتبليط البحر أقرب لك. إن الانتماء إلى الزيف لا يولّد إلا الزيف، إن الانتماء للسياسة في لبنان هو تجسيد للعبثية في أرقى درجاتها. ما من اختلاف بين صخرة الجبل وبين بلاط البحر. فكما العجزُ في الأولى ركيزة عبثية فكذلك هو المستحيل في أن يبلّط المرءُ بحراً ركيزة عبثية أخرى. فالعجز والمستحيل، في وعي الفرد كان أم في لاشعور الجماعة، مفاهيم أساسية لعنوان ما يجري في لبنان من عبث مليء بالعبث. فإنّ حجم عجزنا على التغيير الحقيقي يوازي مدى استحالة أن يغيّرَ الخصمُ والحكمُ في النظام اللبناني من إرادته السياسية. فما من نهاية مرتقبة للرعب- يقول أدورنو- ما دام الإثم والعنف يُكافآن بالإثم والعنف.
إن الصيف على وشك الانتهاء، فلا حرارة شمس كامو في «الغريب» تزعجنا ولا بحر فنبلّطه، وها سوف يحلُّ الشتاء. ماذا نبلّط؟ بحراً في الشتاء؟ سألتكم بأغلظ الإيمان أيهما عبثي أكثر حلولُ الشتاء ورصف بحاره؟ أم حلول ذات الوجوه علينا في الانتخابات؟ فعل الاختيار هنا ليس ممارسةً حرّة إنّما مجرّد إمكانية محدودة للتنقّل في درجات العبث بحيث يصبح تعريف الحرية هو القدرة على التحرّك من خلف القضبان. وهكذا يصبح السؤال بالتالي توليفةً من طبيعة تشاؤمية.
إن الشعوب التي تدخل في مزاجٍ عبثيٍّ عام لا تستشعر تكرارها العبثي للأنساق التي تحيا بها ولا تعود تهتمّ بإيجاد حلولها بقدر ما تفقد شغف المعنى من المحاولة. هذه شعوب تتأرجح حياتُها يمنةً ويسرةً بين الألم والممل على حدّ تعبير شوبنهاور، أي إن عدم حصولها على ما أرادته يعادل في السوء حصولها عليه. إن عبثية الرغبات مسكونة إذن باللاجدوى. فالاختيار كما أسلفناه هو بهذا الفهم، اختيار بين الخواء والسأم المخيفين كحالة بعض اللبنانيين، وبين البؤس والشقاء كحالة البعض الآخر. لذلك فتبليط البحر مثَلٌ جديرٌ بأن يعيدَ إنتاج فهم جديد للعبثية بعيداً عن التشريح الأسطوري، والفلسفي، والوجودي بروحٍ باردةٍ ومتبلّدةٍ كمشاعر بطل «الغريب» ميرسو. فالارتكاز على هذا المثل ضروري لأنه يجب أن نتدَرَّب على فهم العبث على أنه حاضر في كل الأوقات ونربي الجيل القادم على هذا الفهم وما يتطلّبه من معاناة. إن ما تتشرّبه الشعوب على أنه ممارسات وأقوال عرفية يصبح نمط حياة وهو نمط متكرّر يزيد من لامعناه على حساب الإبقاء على الوضع الراهن، وهو نمط يبدأ كشيء ما في الهواء، خفيّ كدخان في الظلام، من السهل أن تشمّ رائحته لكنّك لن تراه. إن أقطاب الطائفية السياسية في لبنان يؤدلجونك على إمكانية تبليط البحر. وكلّ جماعة سياسية يكفيها أن تستشعر في كيانها العاطفي أن كلّ شيء ممكن مع المخلِّص السياسي. وحده البحر الذي لن يُبلّط يظلُّ أكثرنا عبثاً لأنه حتى لو حقق رغبته في أن يُبلَّط لسأمه من بلَلِه/مللِه، ستبقى رغبته ناقصة، لأن رصف البلاط في البحر لا يشبه الردم، والبحر المردوم هو بالوصف بحر غير مبلّط، وبالتالي البحر الذي يجترُّ الردم تلو الردم ليشعر أنه على وشك الانتهاء من تحقيق رغبته في أن يصبح مُبَلَّطاً يشبه ذاك الذي ينتظر جودو في مسرحية صامويل بيكيت.
نحن شعب تمّ العبث «ببنيته» عبثيته إلى أقصى الحدود. فإذا كان ينبغي أن نعي عبثيتنا بعد اصطدامنا الحاد مع لامعنى الذي يحصل ثمّ محاولة التمرّد عليه، فقد أصبحنا مادّةً يطوّعها السياسي لإقناعنا بعبثية سواه، وبالتالي تحوّلنا من موقف عبثي وجودي شامل إلى موقف عبثي أيديولوجي سياسي منعزل. فكيف سنتمرّد على عبثيتنا إذا لم ننقل بندقية الوعي من زيف اعتبار أن العبث الحقيقي يكمن في عدم تبليط البحر مع القائد المفدّى، إلى حقيقة أنّه يجب أن يكتشف وعينا عبثية ولا جدوى تكرار المحاولات في عملية تبليط البحار كحالة عامّة. نقول البندقية لأنّه إذا كانت الحرب تكمل ما لم تكمله السياسة، فمعنى ذلك أن المفاهيم واحدة. فهناك تصويبٌ في الموقف وإصابة في الرأي كما التصويب في الحرب والجبهات. إن التمرّد على عبثية واقعنا في لبنان هو حالة شاملة إذن. يبدأ من صخرة سيزيف وينتهي في بحرنا.
إذا أوغلت في التشاؤم، فلا بدّ من فرجٍ. سنقرأ سيزيف بطريقة أخرى. لم تتدحرج صخرة سيزيف لضعفٍ في بنيته أو لثقلٍ في مادّتها. إنّما لقد شاء سيزيف أن يدحرجها كلّما أوشك على الوصول، وإن كلّفه ذلك محاولاتٍ عديدةً وشقاءً وجهداً، فتحدّيه لعبثية عقابه ولا جدوى هذا الحكم حتّم عليه أن يعيد رمي الصخرة لتتفتّت في كل رمية بعضٌ من أجزائها وتصبح في نهاية الأمر عبارةً عن حجارٍ مشتّتة لا تنتهي، تصلح لأن تكون ردماً في بحرٍ لا يكتفي. فاجتراح الحلول من العبثية للتمرّد على العبثية أمرٌ ممكنٌ إذن. فطالما لا نعي كلّ ما لاطائل منه في انتماءاتنا وسلوكنا وخياراتنا فلن نفتّت صخرتنا. وردم البحر رغبةً أن يصير بلاطاً يتطلّب أن نحطّم ما شُيِّدَ من بُنى ثقافية وسياسية وأن نقوم بأحجارها برصف بحر تمرّدنا. أقول: إن الأمرَ ممكنٌ/محالٌ، فهلا استعجلنا في التصويب على خبر إنّ؟