في ضرورة الاعتذار: حينما يكون الموتُ عامّاً جماعياً والضحايا دوماً آخرين، تكون النجاةُ ذنباً لا يُغتفر. واجبنا أن نقول ونبدي ونعلن، وإن كان جانباً من الكلام الذي نعلم يقيناً أنه لن يكون على قدر ما حدث وحصل، ولا وافياً بما كان وما سيكون له من تبعات في المجالات والاتجاهات كافة، وعلى الأصعدة كلها.
غالبيتنا، إن لم يكن جميعنا، يعرف جلجامش، إما معرفة شاملة بالأسطورة وأبعادها أو بالحدّ الأدنى شذرات منها. وهي أسطورة طويلة تعالج مسألة الخلود في الزمن القديم وكيف فهمه إنسان ذلك الزمن. الأمر المهم الآخر في الأسطورة هذه هو قضية الطوفان، الذي أسس الحدث المفصلي والانعطافة اللذين عبرهما خُلقت الإشكالية الأزلية والأسئلة التي لا تنتهي حول الخلود والفناء. إن أوتنابشتم بطل الطوفان في الأسطورة، هو نوح في القصَصَ الدينية، وهو في الاثنتين تأويل للبداية الجديدة والخلق الآخر، فصار استعارةً لآدم الثاني. ضمن هذا الفهم إذن يأتي طوفان الأقصى، الطوفان النضالي الذي اقترن سيلُه الهدّار بمقاربة «مسافة الصفر».


في الدراسات الأنتروبولوجية، يُنظر إلى التحول في تطور الكائن البشري وفكره، من اللحظة الأولى لاكتشاف النار. النار التي تأخذ هنا منحى الاصطدام المباشر بين حجرين من الصوّان، وفي هذا الاصطدام ذاته تتولّد في الذهن أهمية المسافة الصفرية بين شيئين خالقةً بذلك تحوّلاً جذرياً مهمّاً، وكأن مسافة الصفر هذه هي المنطق الجدلي القديم للحضارة البشرية وهي الرمزية الفلسفية الأولى التي يُبنى عليها لاحقاً كلّ خلقٍ جديد. وللطوفان كذلك بُعده الصفري في سيلانه، فإذا كانت السيولة والصلابة مفاهيماً فيزيائية، فالصفر في هذا السياق هو مقياسٌ فيزيائي للتحول. إن الصفر الفيزيائي إذاً هو الذي عند الوصول إليه يتحوّل الصلب عنده إلى سائل. فالطوفان، أسطورةً كان أم حالة من حالات الطبيعة، يتّخذ في الذهن صورة السيل الهادر الذي لا يُبقي ولا يذر، وهو دائماً في حالة «الصفر» الفيزيائي، ولأنّه لا يُبقي ولا يذر، فهذا لأنّه يصطدم بما يعترضه كله، ولا يُؤذى ما يعترضه إلا في اللحظة التي يصيبه فيها الطوفان، وهي لحظة الوصول إلى المسافة صفر بين هدر الطوفان وبين ما/ومن يعترضه.
انطلاقاً من البديهية هذه يأتي طوفان الأقصى، ليهدر ليس في عقر دار العدو الصهيوني، فالدار دارنا، إنّما ليهدر رعباً في قلوب المستوطنين، الرعب الذي لم يعتَده العدو على هذا النحو لأنه لم يبنِ أيديولوجيته الاحتلالية/الإحلالية على مقاربة المسافة صفر من المواجهة. فإذا كانت العقيدة الصهيونية بطبعها عقيدة متوحشة، شريرة وشيطانية، فإن كلّ من ينتمي لها ويتصرّف وفقها، هو بالضرورة خاضعٌ لما تسمّيه هانّا أرندت بـ«تفاهة الشرّ». الأشرار التافهون من جنود ومستوطنين ومنظّرين في الداخل المحتلّ، أم خارجه، يرتكبون شرورهم دون أن يعوا أن حجم الوحشية السائدة لديهم ما تزال «تجهل» معنى أن تنكسر عند النقطة صفر من المواجهة الجديدة. أحب أن أفترض- والافتراض عادة محبّبة لدى الذهن البشري عند النقاشات - أن الصهيونية المعاصرة تتجنّب قراءة التحليل النفسي للنار، للفيلسوف الفذّ غاستون باشلار، ربّما لأنّه يذكّرها بمحرقتها. فالنار تصف من دون أن تكون في حاجة إلى أن تُحرِق، يقول باشلار، وفي هذا المعنى باتت تتجلّى العقدة من النار، إذ يقترح باشلار بأن يُصنّف تحت اسم عقدة بروميثوس (سارق النار من الآلهة في الأسطورة الإغريقية)، الميول كلُّها التي تدفعنا إلى أن نعرف قدر آبائنا. وأجزم غير مفترضٍ، أن العدوّ سوف يتجنّب بعد هذا اليوم الأمور والأبعاد كلّها التي يرتكز عليها مفهوم «الطوفان» لأنه أضحى يذكّرها «بالبلل الناري» وكأنه نارٌ جاريةٌ، سائلةٌ، سيّالةٌ على سفح بركان.
لا تكاد تخلو حضارةٌ في التاريخ البشري من تضمين سردياتها المرجعية قصة عن طوفان أصابها، وفقاً لما يقول فراس السواح وخزعل الماجدي في دراساتهما الميثولوجية. لذا هو مفهومٌ مركزيّ في مجموع التاريخ البشري القديم، تنبع مركزيته في أنّه يؤسس بدايةً جديدةً تُعيد التأسيس وتنطلق بحلّة أخرى. فلم يكن عبثاً إذن أن تُسمّى عملية نضالية بهذا الاسم «طوفان الأقصى» بعد ثمانية عقودٍ من المواجهات والمعارك التي أخذت مسمّيات لا ترقى أسلوباً ومضموناً للمستوى الذي نشهده الآن. إن هذا الطوفان النضالي قد سُطِّر منذ لحظته الأولى في رأس الصفحة الأولى من السجلّات التاريخية لحركات التحرر، وبالتالي دخل حيّز الخلود المكاني لأنّه مرتبط ومتجذرٌ سلفاً بالانتماء للأرض وتحريرها. ودخل روزنامة الخلود الزماني كذلك لأنه أسس مفهوماً للحاضر الذي نفهمه على أنه نقطة التقاء بين الماضي والمستقبل. فبات تقويماً راسخاً للما-قبل وللما-بعد، وفي هذا تأكيدٌ للمؤكّد بأن مركزية مفهوم الطوفان تتجلّى بكون ما قبله لا يشبه ما بعده طالما أنه (أي الطوفان) استعارةٌ للبداية الجديدة. من المفيد التنويه هنا أنّ ما نقصده بالبداية الجديدة ومفاهيم مثل «القبل والبعد»، لا تندرج ضمن خانة القطيعة التي تحاول أن تتجاوز الماضي في المجالات كلها تجاوزاً تامّاً إنّما المقصود -وهذا من مسلّمات العمل المقاوِم- أن كلّ ما سبق من مواجهات ومعارك مع العدو أسس حالة تراكمية قصوى خلقت تحوّلاً جذرياً في الصراع ذاته، إذ إن ما سوف يلي عملية الطوفان من منهجيات جديدة في النضال ومن المبادرة والبذل الفدائي النوعيّ.. لن يشبه ما سبقه، بل سيتجاوزه صوب الاقتراب المتواصل والسريع للتحرّر بنضالٍ أكثر كفاءةٍ، بشجاعة فائقة الوصف، وبنوعية مواجهة تتخطّى الصاروخ (على أهمّيته وضرورته وحاجته) نحو البندقية والسكّين لأنّهما في حالة صراعنا، كما هي حاصلة، يشكّلان التجسيد الحقيقي لضرورة المسافة صفر في بثّ الرعب وفي التمثيل الفعلي لاستعارة الطوفان.
ثمّ إن الحديث عن إرادة القتال والعقيدة العسكرية يتطلّبان بالضرورة التدريب الذهني والبدني على القتال من مسافة صفر، فاعتدنا دائماً منذ الصغر رؤية الكيفية التي عبرها تتمظهر العقيدة القتالية الحقّة حين تواجه من مسافة الصفر أيضاً حجارةٌ في كفّ المقاوِم ذخائرَ ومعادنَ الدبّابات والآليات العسكرية العدائية الصهيونية. فالأعداء جبناء بطبعهم، ولن يقصّروا كلّما سنحت لهم الفرصة في أنْ يُباعدوا في المسافات بينهم وبين من يقاومهم، عكس المناضلين الذين كلّما قرّبوا من مسافات المواجهة بينهم وبين أعدائهم حقّقوا بذلك دورهم المقدّس في النضال وفي انتزاع حرّيتهم. وضمن السياق نفسه، إنّ الصفر قد يكون نقطة انطلاق وقد يكون عودة للحالة الأولى، وفي الحالتين هو عددٌ «صحيحٌ» أنطولوجياً، إذ من العدم يأتي الوجود ويبدأ وينطلق، وإلى العدم بعد ذلك يمضي. المقاومة إذن على هذا المستوى هي الصفر الذي منه ننطلق لنُوْجَدَ ونُوجِدَ حرّيتنا، ولا يمكن فعل ذلك إلّا إذا مارسنا «صفرنا الأنطولوجي» في المواجهة من مسافة «الصفر النضالي»، لندفع أعداءنا بالتالي إلى «صفرهم العدميّ».
في جدلية التحوّل من الكمّي إلى النوعي تبرز المقاومة مثلاً حقيقيّاً. وكأن تحوّلَ الشيء ذاته إلى الشيء في ذاته هو التفسير لغموض القول في إن لطاقة المادّة قدرة على استحضار التغييب وتغييب الحضور. وهو المعنى لأن تتحوّلَ ملايينُ البنادق والزنود شعوباً ومجتمعاتٍ، إلى فكرة واحدةٍ جامعةٍ تشكّل الخيط الذي ينظمُ مشتركاتها كافّة. الأمميُّ والدينيُّ والعلمانيُّ الوطني، في ما يخصّ الأوتنابيشتم/نوح الفلسطيني، تجمعهم فكرة الحرية والتحرّر وضرورة الانعتاق، وليس ثمّة من حركة تحرّر لم تُدرس فلسفياً وسوسيولوجياً ونفسياً وتاريخياً، أي كانت الحقول المعرفية الإنسانية كلها تسعى إلى أن تكون في خضمّ فهم هذه الظواهر النوعية المذهلة، مثل ظاهرة المقاومة التي تشترك في بنياتها جميعها المجتمعات كلُّها وفي كلّ الأزمنة. لذا تشبيه المقاومة بالطوفان ليس بالمفارقة الغريبة، كلاهما يشتركان في الجوهر، وفي القدرة على التحوّل النوعي وفي فهم التراكم على أنّه بناء في اتّساع الرؤيا والعمل وفقاً لذلك. أن تكون بندقيةً، فأنت قطرة في بحر، وأن تكون حركة ثورية، فأنت موجة عاتية، وأن تكون جبهة متراصّة الجهات، فأنت الطوفان.
ما المعنى من هذا كلِّه؟
إنّ التاريخ يعلِّمنا أنّ المقاومةَ خيارٌ جذريٌّ، خيارُ ردّةِ الفعل السليمة للمجتمعات، خيارُ الدفاع القِيَميّ والمادّي، فالمقاومة إذن خيارٌ حضاريٌّ أصيل. وبالتالي هي المعنى الأوضح لمفهوم الانطلاق الجديد المبني على الدفاع عن الزمن الوجودي، الزمن الذي فيه نحيا ونؤسّس ونكون. والمقاومة هي طلقة البدء، هي الطوفان الإنساني الذي يقود قطرات أبنائه اندفاعاً محقّاً، وهي الصفر الأنطولوجي.
فلنبدأ بالقطرة الواعدة.