تُعرّف موسوعة هاتشينسون البريطانية مصطلح «التطهير العِرقي» بأنه: «تهجير لعدد من الأشخاص في مكان يشمل أعراق مختلفة، عبر الوسائل العنيفة وغير العنيفة، مع اقتلاع للتاريخ المحلّي للعرق بعينه، بحيث يُعمل على قطعه من جذوره». تحفل أشكال التطهير العرقي بآليات اختزال تتابعيّ لمجتمع متجانس عرقياً إلى مجتمع منتقى وموحّد بقناعٍ أيديولوجي واحد. هنا يستحيل فعل المواطنة إلى رفاهية ويحضرُ «اللجوء» كإشارة للوجود الذي يكون الاعتداء عليه مبرراً. هذا عن التطهير الناتج عن تعددية عرقية استحقت المواطنة في مكان واحد. لكننا الآن نعايش مشروع تطهير عرقي وإبادة جماعية طويلة النفس تجاه شعب مسلوبة أرضه. وبطبيعة الحال فإن مآسي الإبادة في العصر الحديث ما زالت محجوزة لمقعد «الهولوكوست» فقط. تحظى سيرة الإبادة الجماعية لليهود خلال الحرب العالمية الثانية بأسبقية الحصول على شعورِ العالم بالذنب. للكلمة صدى كبير، ومُحمّل بالدعم، والتذمر الدولي له قدرة على إطالة هذا الذنب. وبالفعل إن حدوث تلك الإبادة هو محل إدانة بلا شك، لكن ألا يحق لنا أن نسمّي ما يحدث الآن في فلسطين أيضاً بأنه إبادة؟ في كتاب «الحداثة والهولوكوست» يُنذر زيجموند باومان بأن إبادة اليهود لم تكن محدودة في الشيطنة الهتلرية. فطالما هناك تماهٍ بين سُلطة المثقف وسلطة الدولة فإن نذير المحرقة قائم. في هذا النطاق، تتضاءل القيمة الضخمة لما يحدُث في غزّة، وتبرد دمائها التي تدين اللحظة الراهنة، أمام الصدى المُضخم لإبادة اليهود، فلا ضحايا هنا غيرهم، والعالم –الذي يقرّ بإدانته للحروب- بدوره مستعدٌ للبكاء عليهم فقط.
لقد أشار باومان في ختام إحدى طبعات كتابه إلى ما عرّفه الفيلسوف الإيطالي جورديو أغامبين بـ«الكائن المُستباح» وهو مفهوم مُستحدث في القانون الروماني القديم، ويشير إلى أشخاص يمكن قتلهم على الفور من دون أن يأخذوا عقاباً. يُستعاد فعل الإباحة في صورة معاصرة تحت إطار مجتمعات مدنية، وقانون دولي، ونظم ديموقراطية الشكل. فآلية الأمنِ من العقاب تتجلى في نفس صورتها القديمة، الأهم هو طيّ هذا الكائن وطمسه في صفحات النسيان.
التعريفُ الذي يشمل اليهود يمتد بالضرورة إلى الكارثة الفلسطينية الحاصلة. الكارثة التي يمكن اعتبارها امتداداً لخمسة وسبعين عاماً من الاحتلال القائم على التهجير والقتل والكثير من المذابح التي تحدث في زمن صُوري يتيح للعالم مشهدية حيادية عبر وساطات مرئية، بأسلوبٍ يجعل من تجاهل قصدية «التزييف» مسألة خرقاء بديهياً. لكن يمكن للصورة أن تتحول أيضاً من مجرد نسخة زائفة عن الواقع وتحقق هدفها وتحاكي الواقع، ذلك تبعاً لصدى الأسى في كل كلمة. فالإبادة الأولى، أي الهولوكوست لديها كتلة شهود، لدرجة أن مجرد ذكرها يشرّع تحريم المقاومة الفلسطينية، وزج عملياتها في اغتصاب النساء، وقتل العجائز، وقطع رؤوس أطفال، مع ضرورة أن يكون ذلك مصحوباً بصورٍ مُلفّقة، بينما الإبادة الثانية، تلك التي تحصل اليوم، فيخترق صدى الصراخ الفلسطيني آذان العالم ولا يحصل حتى على مجرد لفتة انتباه.
فلسطين التي قسمت خريطتها إلى نتف في أقل من نصف عام، لم تحظ برضى المُجتمع الدولي عنها. لا تحظى فلسطين الآن على الحق في تظاهرة مدنية سلمية في دولة ديموقراطية بعيدة. فقد حُجّمت الاحتجاجات في لندن بعد أن قُبض على متظاهرتين حملتا صورة التحليق الذي حدث فوق المستوطنات عقب الطوفان الأقصى. والمُجتمع الألماني –الذي حصر ذنبه فقط فيما حصل في الماضي- يلاحق العرب هناك إذا ما أظهروا أي دعم. يأتي الدفاع الغربي عن إسرائيل في دعمٍ إعلامي ومعنوي لا محدود متزامن مع الأبوّة الأميركية لإسرائيل ومدّه لها بالموارد المادية والعسكرية والبشرية، ليوقد شرارة التفرّد الأعمى في حكم العالم والسيطرة عليه. تستبعد هذه الأحادية التشكيلات الثقافية الأصلية، وبالتالي فإن الشواهد التاريخية للمذابح المُقترفة في حق الشعب الفلسطيني تتعرض إلى إمحاء عن قصد حتى يجهلها المستقبل، ويشوّش عليها في الحاضر، على هذا النحو، لا تحضر الإبادة الفلسطينية إلا كصدى داخلي كتوم.
يُطالعنا التاريخ على الإبادة والطرد الجماعي الذي تعرّض له الفلسطينيون، بدءاً من مذبحة دير ياسين في 1948 والتي نُفذّت على يد مجموعتي الإرغون وشتيرن الصهيونيتين، إذ وصل عدد ضحايا المجزرة إلى 360 قتيلاً. من دير ياسين إلى مذبحة الطنطورة التي حدثت بعد أسبوع واحد من إعلان قيام دولة الاحتلال. اختار الجيش الإسرائيلي هذه القرية لموقعها كونه يطل على ساحل المتوسط، ولسهولة مهاجمته كذلك. كانت الحجة/ الذريعة للهجوم أن القرية تمثّل تهديداً لإسرائيل لأن بوسع مرفئها أن يزوّد الفلسطينيين بالسلاح. فكرة أقنعت المجتمع الدولي، لذلك لم تكن هناك حاجة إلى حجة استخدام المدنيين كدروع بشرية.
خلال العُدوان الثلاثي على مصر، عام 1956، حصلت فلسطين على نصيبها من الكارثة. قتل يومها حوالى 250 فلسطينياً في مخيم خان يونس جنوب قطاع غزّة، وبعدها بأيام تناسخت المجزرة حالها، وحدثت واحدة أخرى قضى فيها 275 فلسطينياً. من مذبحة صبرا وشاتيلا، وعبر ثلاث انتفاضات (الطوفان الأقصى هو ثالثها) نُعايش ذروة جديدة للعدوان ذاته، وللاعتداء ذاته، تحت أعين عالمية قادرة على تتبّع كل شيء، ومعرفته كلياً بحكم التقنية التي بذمتهم، لكن ما يعايشه الفلسطينيون، واليوم أهل غزّة تحديداً، هو الموت والإبادة فقط.
لا تملك «إبادة» الفلسطينيين الصدى نفسه للـ«هولوكوست». ليس لهذه الإبادة أي صدى. ربما يكون السؤال عن هذا السبب هو «الأحقية»، أي إن هناك من يعتبر نفسه مخولاً لإعطاء العالم صفاته ونعوته، كما أنه يعطي نفسه الحق في أن يكون ضحية-ولا يريد أن يعترف بأن هناك ضحايا آخرون غيره- وهو يقرر العقاب، بوصفه جلاداً، في الوقت عينه.
تحيلنا الإبادة الحاصلة اليوم على إعادة النظر بكل إبادة حصلت بحق الفلسطينيين على مدار السنين الفائتة، والتي جرت تحت صمتٍ إنساني مُخيف. على هذه الإبادة تحديداً أن تجعلنا نفكر في كيفية إعطائها ملمحاً، وتأريخاً، وأن تأخذ صدى حقيقياً يمثلها. غير أن هذه الإبادة، مثل كل التي سبقتها، ولو قيلت بعجزٍ، هي تطهير لجماعة من المدنيين المسالمين، وجريمة حرب إنسانية، وحضارية، في المقام الأول.