في ضرورة الاعتراف: ينظرون إلى أنفسهم نظرة أبطال وهم كذلك حقّاً. أحرار ينتمون إلى نطف الأحجار كلّما صمدوا، يحبّون طريقة موتهم إذا ما الموت كان قدراً، وحسبي أعجب من ذلك أنّهم على طريقتهم في الحياة قبيحَ الموت للأعداء يحضّرون. هم هكذا أهل غزّة. من كان منكم أجرأ منهم على هذا فليتفضّل.
تعترف حركة التاريخ أن الآثار المادّية والفكرية لثورات الحداثة الأوروبية هي من شرعنت الاستعمار، بل إن العلاقة بينهما باتت علاقة سببية حتّمت، وما زالت تحتّم، الهيمنة إلى الآن وتستدعي كذلك كل المسائل التي يمكن مناقشتها في أطروحة الاستعمار. فظهور النظريات الليبرالية في السياسة، والاقتصاد، ونشوء العنصرية العلمية، وتوظيف الداروينية الاجتماعية كانت كلها أسباباً ومبرّرات لتفوّق الذات الأوروبيّة من أجل استغلال واستعمار الآخرين و«تحضيرهم»، الأمر الذي احتاج صيغة جديدة للمجتمع الدولي يشكّله الغرب حسب قواعده ومعاييره ومؤسساته. إن حاجة الأوروبيين إلى الاقتصاد الجديد وإلى المصادر المتنوعة من الإمدادات والأسواق العالمية، دفعت بهم بشكلٍ مقزّز إلى ضرورة تبرير نمط العلاقات غير المتكافئة بينهم وبين الآخرين، عبر التوسّع الإمبريالي وترويجهم لـ«معيار الحضارة»، خالقين بذلك التقسيم الهرمي بين الدول «المتحضّرة» والمجتمعات «البربرية». بين مركز صغير نسبيّاً ولكن قويّ جدّاً، وبين أطراف كبيرة ولكنّها ضعيفة. فعبر مسارات الاستعمار الحداثي وخلق الفجوة الكبيرة على مستوى القوة بين دول التحديث والأمم الأخرى، عمل الغرب على إعادة تشكيل العالم وفق تصوّره السياسي والاقتصادي والثقافي. وبذلك تكون دول الأطراف قد حُرمَت من المساواة في السيادة، ومن المساواة العرقية، والثقافية والاقتصادية. أقذر ما في هذا كلّه أنه شكّل مسوّغاً للإمبريالية، والاستعمار، والتمييز بين الأجناس والأعراق واستغلال أسواق الآخرين ومواردهم بهدف نمو مراكز الحواضر على حساب البقيّة.

بيكاسو، «غيرنيكا»

لا ريب أن العقل الأوروبي اليوم يحتاج إلى سنوات طويلة من النقد الذاتي حتّى يتخلّص من مخزون ورغبات الغابة التي فيه. إذ إن التوحّش وإراقة الدماء والرقص على الأشلاء دافعٌ أساسيٌّ للحياة في قانون الغاب. فقد هدر من الدماء في فترة الحداثة والتنوير الأوروبيين ما لم يُهدر في العصور «الأولى»، والصهيونية هي نبتة السمّ المستوردة من الغابات الأوروبية التي لا تختلف كثيراً عن نبات النازية والفاشية. ما لم تعلمه أوروبا وتنويرها الاحتكاريّ أن العقل الإنساني مهما سعى واكتسب من المعرفة ما اكتسب، وبلغَ من الرشد ما بلغ، وتدرّج في مدارج الحضارة حتّى منتهاها فسوف يبقى رافضاً للظلم والعبودية وراغباً بالمجد والعدل، ولن يساوي بين الجلّاد والضحية. في هذا السياق تحديداً يكتب الدكتور سيف دعنا بأن ما يجري في غزّة الآن هو «أن الخير كلُّه خرج ليقاتل الشرّ كلَّه، والحقّ كله خرج ليقاتل الباطل كله، الأشجع والأشرف والأنبل خرج يقاتل الأجبن والأنذل والأسفل». وإذا كان الدكتور جوزيف مسعد يعتبر عند حديثه عن ديمومة المسألة الفلسطينية أن مفهوم التحرير مفهومٌ غربيٌّ استعماريٌّ في الأساس على اعتبار أن أول من استخدمه كانت الحملات الصليبية التي استوطنت بلادنا، فإن أهل غزّة اليوم، وكل الدماء التي ارتقت في مجزرة مستشفى المعمدانية، هم الأجدر في تفريغ المحتوى القديم لهذا المفهوم، وملئِه بمحتوى أحقّ وأعدل، ورفعه إلى مستوى الفعل الحقيقي، وتجسيده تجسيداً أمثل.
إن التعتيم المقصود والممنهج لكل ما يحصل في فلسطين، وملاحقة كل صوت ثقافي أو غيره في الغرب ومؤسساته، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، يؤكّد أمراً واحداً وجوهريّاً، وهو أمرٌ لا تستطيع كلُّ عبقرية قيودهم وتنظيرهم الحداثي المُدّعى أنْ يطمسَه أو يستبدله بما شاؤوا من زيف وبهتانٍ وتزوير للتاريخ والحقائق والدماء. إن أمراً واحداً يكفي لتعرية شعارات حرّيتهم البلهاء وفلسفاتهم الليبرالية «المظلِمة» أمام وضوح دمائنا وحقّنا وحربنا. فالتضييق علينا وعلى مثقّفينا في مؤسساتهم، وتحريف الوقائع والميدان يؤكّد ما لا يدعو مجالاً للشكّ، أن ميزتنا التي يفتقدها الغرب، هي أنّنا قادرون على تقديم إجابات حقيقيّة على كل تساؤلات حقّنا في فلسطين، وأننا بفعل ذلك نؤسّس مواجهاتنا ولا نسقط حقّنا عبر الزمن. فنشتبك ونعلّم الأجيال على الاشتباك، لأنّنا كالأعرج المستقيم قد وجدنا أجوبتنا. ولأننا كذلك فإن القلم والثقافة والرأي والموقف يدخلون الميدان، وإنّهم من موقعهم يكوّنون وعينا الذي لا شكّ يؤطّر أزيز الرصاص وشعلة الصاروخ. لقد اغتيل غسان كنفاني لأنه لواء فكريٌّ مسلّح، واغتيل ناجي العلي لأن العدو كان على يقين أن حنظلة الطفل ليس مجرد رسمة بل رمزاً للصمود والذاكرة والعودة. فإذا كان هيغل شاهد روح العالم على صهوة جواد نابليون، فإنّ أدورنو شَاهد هو أيضاً روح العالم ولكنّه لم يكن على صهوة جواد نابليون وهو يدخل مسقط رأسه، وإنّما على «جُنيحات صاروخ». إنّ طوفان الأقصى إذاً هو النقيض الذي يقضي على التنوير الغربي المشوّه، ويكسر التلاعب بالوعي الجماعي، ويحطّم صناعة الثقافة الأورومركزية، ويفضح استخدام الهمجية الأوروبية الفاشية الأكثر أشكالها تعقيداً هي الصهيونية. إن الحرب الدائرة الآن في غزّة هي الأوضح والأعدل في التاريخ. إذا نظرنا إلى ما يجري نظرة إدراك عميق، نكتشف أن كل ما يحدث ينطلق من تصوّرَين: تصور غربي يعتبر أن الرجل الأبيض هو «الأعلى شأناً»، ومتفوق، وصانع الحضارة، وهو من يستحقّ أن يعيش في أمان وبكرامة. وانطلاقاً من ذلك يعتبرون اللامنتمي إليهم أنه من الـ«حيوانات»، فيقطعون عنه الماء والغذاء والطاقة، ويتوحّشون في قتله وقصفه وإبادته بفتاوى «تنويرية» مظلمة. بيد أن ما فعلته المقاومة في فلسطين هي أنها اقتحمتهم، وكسرت اعتباراتهم العنصرية المقيتة. أي إنّها قوّضت كلّ معتقداتهم الحداثية المحتكرة. أما التصور الثاني فيقوم على رؤية أكثر تقدمية، إذ تعتبر أنّه ينبغي النظر للإنسان كإنسان في المقام الأول، وتصريحات بعض الرهائن المدنيين الذين أُطلق سراحهم تؤكّد على ذلك، إذ تعامل المقاومون معهم معاملة حسنة. ولكن تجدر الإشارة هنا أن هذه الرؤية تعرف تماماً كيف تفرّق بين الظالم والمظلوم، وبين صاحب القوة وصاحب الحق.
إنّ الملاجئ الصهيونية هي التجسيد المادّي للحداثة الغربية العنصرية. فالحداثة هذه لجأت إلى كل ما من شأنه أن يسوّغ احتلال الآخر، وقتله واستغلاله استغلالاً تامّاً. وهو ما يتقن فعله الصهاينة، لكنك في كل معركة تراهم يهرولون إلى ملاجئهم بعد كلّ قصف يفتعلونه. فالملجأ هو قجّة إسمنتية مسيّجة بالأسلحة، والحداثة هي مخزن فكري مسيّج بالنظرية. الأولى هي وعاء يدّعي حماية البشر، والثانية هي وعاء يدّعي تنوير وتحضير البشرية. فالثنائية إذاً تختصر كالآتي: يقصفوننا ومن ثمّ يلوذون بملاجئهم الإسمنتية ليحموا أنفسهم، وعندما نردّ لهم الصاعَ يلوذون بكل المفاهيم الحداثية ليوصموننا بالإرهاب، والبطلان في سبيل تبرير وحشيتهم البدائية، وحماية «ذواتهم». في حين أن النفق، النفق الذي احتاج دماً وعرقاً وجهداً وإيماناً وقدرةً قصوى لحفره وتمكينه، هو أملُ المقاومة وأهلها، هو رحلة الضوءَين وسط الظلمة، هو المفهوم الذي أنفقَت المقاومة في سبيله زنوداً صلبةً، وأجساداً حيّةً، وأرواحاً قتاليّة لا تكلّ ولا تملّ، لأنّه مفهومنا الثقافي والمادّي معاً، وهو البنية المشتركة بين معظم حركات التحرر التاريخية التي حاولت الحداثة «الملجئية» أن تخضعها عبر التاريخ وفشلت. فإذا كانت ملاجئ الأعداء للاحتماء، فإنّ أنفاقنا هي للمواجهة.
إن الخطاب هنا واضحٌ وضوح الحرب، والحرب واضحة وضوح الخطاب. والأول هو الوجه الآخر للثاني لكن في ميدانٍ مختلف. وكلّ خطاب لا نشتمّ فيه رائحة البارود هو خطاب ينحاز ضدَّنا، من أيّ جهةٍ جاء ومن أيّ قلمٍ كُتِب. في خطابه الأخير يساوي سلافوي جيجك بين السيف والرقبة، يدعو إلى الوقوف من دون شروط مع «حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها أمام الهجمات الإرهابية»، ويدعو إلى أن نتعاطف مع الفلسطينيين الذين يواجهون البؤس. يجادل جيجك بإمكانية حدوث السلام لو أنّ الصراع يستلمه طرفا السلم في الكيان من جهة وفي غزّة من جهةٍ ثانية، على اعتبار أنه كما في بلادنا فئة تطالب بعملية إنهاء الحرب وإحلال السلم ونبذ «الجرائم ضد الساميّة»، كذلك في الكيان هناك فئة تسعى لذلك بحجّة أن في إسرائيل توجد فئة غير متعصّبة قوميّاً. جيجك يمسخ القضية إلى مجرّد صراع بين تعصّب قومي يهودي وبين أسطورة معاداة السامية. ومن جهتها تكتب جوديث بتلر مقالاً طويلاً تعبر فيه عن إيمانها الأخلاقي باللاعنف، مسقطةً كل تبريرات حماس المحقّة في المقاومة واسترجاع الأرض، وقد نشر المقال بعد ساعاتٍ من مجزرة مستشفى المعمداني. هل هناك أمقت من اللاعنف هذا؟ هل يحتاج المثقّف إلى معادلات خارقة لكي يختار الموقف الصحيح والسليم؟ وهل حقّاً يحتاج كلُّ ما يجري إلى كلِّ هذه الفزلكات والحشو اللغوي؟