في 31 أكتوبر من كل عام يحلّ عيد هالوين وهو عبارة عن احتفال لاستذكار الموتى. لكن الهالوين المُعاصر، بصبغته الأميركية، يجعل جوهر العيد في حضور مجازيّ شكلي. تُزيّن البيوت باليقطين، يتنكّرُ الناس وراء شخصيات أخرى حتى لا تلتقّفهم الأرواح العائدة من البرزخ والتي تحوم حتى الصباح في ليلة العيد. يتنقّل الأطفال من بيتٍ إلى آخر وبحوزتهم أكياس وسلال فارغة حتى يملؤوها بالحلوى، وأما من لا يجبرُ بخاطرهم ويهبهم الشوكولا وقطع الحلوى، فإن الأرواح الشريرة تغضب منه. في هذه الأثناء هناك غضب آخر وبحث آخر، ليس مجازياً، حيث لا تُوجد بيوت تُعطي الحلوى للصغار، لأن البيوت تُقصف على رأس أطفالها. يحفل العالم الحديث بالنزعات الظاهرية للاستهلاك. ثمّة مجاز مصبوغ بالمغالاة والغزارة فيما يُفضّل تبنّيه سياسياً وأخلاقياً حتى نكون في إطار العالم/ الظهور وتستحيل صبغة الغزارة إلى حياتنا اليومية. في هذه الأيام ندرك أنه يمكن أن تطول الحرب والإبادة. منذ صبيحة السابع من أكتوبر، ظهر «طوفان الأقصى» فجأة أمام دولة الاحتلال، وهي في سبات، مثل ظهور الأطفال بوجوه مستعارة فجأة أمام الكبار. ذلك الفلسطيني يُعاقب الآن، كأنه عِقابٌ بالخطأ، فلا يُمكن فهم تواطؤ المُجتمع الدولي إلا عبر احتمال، أن ما يحدُث الآن مكانه في مجازات الهالوين. السؤال المستهلك الذي يمضغه فم الميديا الغربية هو ذاته: «هل تُدين هجمات حماس؟». عندما تُحاور محطات التلفزة أيّ شخصٍ يُؤيد الحق الفلسطيني يأتي هذا السؤال وكأنه يساعدهم في تنقية الأبيض من الأسود. فهم يصوّرون الصراع على أنه بين الخير والشر، بين الحضارة والبربرية، كيف يمكن أن يسمحوا للظلام أن يظهر؟
نرى في أفلام المخرج الفلسطيني إيليا سليمان خوفاً من الكلام والاكتفاء بالظهور الصامت لشخصٍ فلسطيني يتلحّف بالسخرية لاستيعاب تفاهة العالم. لا يحق للفلسطيني أن يظهر وينال شيئاً من حقه في الوجود. في فيلم «إن شئت كما في السماء» يتنقّل سليمان بشخصيته الحقيقية بين الناصرة وباريس ونيويورك، ثم إلى الناصرة مرة أخرى. تنقّل يحدث من دون حديث، لدرجة أنه من الممكن اعتبار وجوده أقرب إلى الوهم. يسير سليمان عبر الفيلم متطلعاً إلى العالم، وفي أحد المشاهد يجلس سكّير فلسطيني، وخلفه جنود، يراقبونه بالمناظير حتى ينتهي من جلسته ويرحل.
في نيويورك يسأل سائق التاكسي سليمان عن منشئه. للمرة الأولى منذ أول أفلامه، يتحدث سليمان ويجيب بأنه فلسطيني من الناصرة. هكذا يعود الوجود فجأة بدون النبش في آلام الشأن الدولي منعاً من الوقوع في ورطة. يُلزم على الوجه الفلسطيني أن يتمسّك بالاختفاء حتى يُمكن للعيد أن يكتمل. ولأن الشكلية الغربية، في التصريحات أو في الاحتفال بالهالوين الحاصل، لا بد من أن تكتمل. لا يتمثّل القمع على أساس عرقي في إلغاء الوجود فقط، بل أيضاً في تمرير إبادة من دون اعتراف بحدوثها، في تحويل اللحظة التي نفزّع فيها بعضنا بوجوه الهالويين المُستعارة ثم ندرك سريعاً أنه خوف عابر ونضحك. تمتد هذه اللحظة لما يقرب من شهر كامل، لأنه على الجانب الآخر من الاحتفال، يُلقى الفلسطيني في الخارج الخطير، كُل قطاع غزة تدكّه وتبيده قوى غاشمة.
يباين باشلار في «جماليات المكان» بين الداخل والخارج. داخل البيتِ هو نهاية الأشياء حيث التلحّف بمحدودية المكان. في الداخل نزوع نحو الذاتية بينما الخارج يشبه الهيام في العراء ولذلك نُودّع ضيوفنا وبالأخص ضيوف الليل ونحن واقفون على الأبواب، نتمنّى لهم أمنية حقيقية عودتهم سالمين إلى منازلهم. لا يُوجد «داخل» في فلسطين و«الخارج» هو ساحة هالوين حقيقية إذ يستقبل كل ما تلقيه السياسة الأميركية ودولة الاحتلال عليها: لعبة أم قُنبلة تقصف بيت أو مستشفى أو سيارة إسعاف. هذا «الخارج» الفلسطيني المرعب الذي يتعرض إلى الإبادة، ليس جُزءاً من الحفلة، وليس مجازاً؛ أصوات القنابل حقيقة، وكذلك صُور الأطفال، لكن العين الخارجية تحيط قطاع غزّة بملاءة بيضاء، لا يرى عبرها إلا استهدافات المُقاومة، وهنا طبعاً يظهر صوت الإدانة.
في فيلم «الطنطورة» يؤسّس المخرج الإسرائيلي آلن شوارتز مادته الوثائقية على حادثة أُطروحة كُتبت في جامعة حيفا من قِبل الباحث تيدي كاتس. الأخير كان يعمل على بحثٍ تاريخي يتتبّعُ حقيقة ما حدث بقرية الطنطورة. أقام كاتس أطروحته على مقابلات أجراها مع جنود اقتحموا القرية وما زالوا أحياء، ومع نازحين فلسطينيين عايشوا المذبحة بغية توثيق وأرشفة ما حصل في القرية وتسجيل حيثيات الاقتحام. حينما نشر أطروحته في مجلة معاريف، اتضح أنها تعتمد على اعترافات جُنود بحدوث مذبحة، فاستاء الداخل الإسرائيلي تجاه تيدي كاتس، وبدا إلباسه وجه الإقصاء ضرورياً. رفع على كاتس قضية تشهير من قبل الجنود، ومنع من عرض الشرائط في المحكمة، ثم أجبر على التوقيع على اعتذار عن ما بدا من سوء فهم والتباس للحقيقة في أطروحته.
يبدو الفلسطيني عرضة للإقصاء في وجوده في الواقع أو في الذاكرة. مثلما تُستهدف البيوت تستهدفُ الذاكرة كذلك. تتغذى الهجمة البربرية على ملاحقة كل ما هو فلسطيني حتى وإن كان فكرة. في مُفتتح فيلم «الطنطورة» نرى أول مستوطنٍ دخل القرية ومعه ثلاثة مُستوطنات. يبدؤون بتذكّر الطنطورة الجميلة ومع تتالي شهادات الجنود الموُثّقة، يخبروننا عن تدمير القرية وارتكابهم جريمة قتل 280 فلسطينياً، إذ دفنوا في مجزرة جماعية، ولاحقاً يُموّه على وجودها ببناء موقف للسيارات أعلاها. في آخر الفيلم، يسأل المخرج السيدات عن إمكانية وضع نصب تذكاريّة للفلسطينيين المقتولين، فعلى الأقل، باعتبار أنّ حقيقة المذبحة باتت مُعلنة للجميع، سيكون من الجيد، وفق تعبيره، الاعتراف بحقيقة ما حدث. ترفض السيدة، وتشترط شرطاً يبلور لنا عمق عقيدة الإقصاء الدائمة للفلسطينيين، إذ تقول «عليهم أن يعترفوا بنا أولاً». رغم إطلاق السلطة العالمية شرعية وشرعنة وإباحة جرائم حرب، يظل لصوت هذه السيدة صدى مخيفاً لدى الشعور الإسرائيلي بالوجود، وبالاعتراف بالوجود. هناك حاجة إضافية إلى اعتراف بحقيقة الإقصاء، لأنّ مجرّد ملمح وجود المقصي يفرضُ وجوداً حقيقياً.