«اهرعوا يا ذوي النفوس الفتيّة الغضّة العود، لِيَكْنِسْ نفحُ الحياةِ الغبارَ المتراكمَ عليكم في ذلك الطريق المسدود المُعتِم. اتبعوني، لنمضِ معاً إلى النصر، عاجلاً أو آجلاً، لا مناصَ لكم من أنْ تستيقظوا، وإذا ما طُهِّرَتْ نفوسُكم وارتقتْ، حطّموا سلسلةَ التسويات وأنصاف الحلول! هاجموا العدوَّ بكلّ ما أوتيتم من قوّة، وحاربوه حربَ حياةٍ أو موت» - هنريك إبسن، مسرحية «براند» .
لعبةُ الشهيد:
اكتظاظٌ هائلٌ من الناس في ممرّ المستشفى. صراخٌ يقضّ صلابة الضمائر. دمٌ يسيل فوق زجاج الروح كأنّه ندى. أطفالٌ يرسم ملامحَهم غبارُ الردم. موتٌ مشاعٌ للجميع. أنينٌ أطولُ من ممرّات المشافي. فناءٌ أكبرُ من أسرّةِ الشفاء. وقوفٌ على حافّة الهاوية. أظفار من حديدٍ ونارٍ تخدشُ وتجرح وتقطع وتحرق أشجار الجسد النابتة في أرض الروح. انتظاراتٌ شتّى على بوّابة الخلود. بكاءاتٌ مُرَّةٌ، ماءٌ جفَّ حتّى من قدرته على البلل، جوعٌ يجوع جدّاً. فهل حلّتِ القيامة في غزّة؟ لا، يقول لنا أطفالها. فإنّ مشهداً حدث هناك لم نقله بعد. بضعةُ أطفالٍ يمرّون بين الممرّ المؤدّي إلى الخلاص وسط اكتظاظ الناس والصراخ والدماء والموت والأسى والحصار، يحملون فوق رقعةٍ من قماشٍ طفلاً صغيراً يمثّل أنّه استشهد تحت قصف الاحتلال. ينشدُ الأطفال مرثيّتهم عليه ويمشون وسط زحام الممرّات، يسألهم البعضُ ماذا تفعلون؟ إنّنا نلعب «لعبة الشهيد» ثمّ تعلو على وجوههم أجملُ الابتسمات.
إنّ الحرب بذاتها ليست عملاً مثيراً والتشييع السالف بات بظاهره عملاً اعتدناه جميعاً وفي غزّة تحديداً أضحى روتيناً مألوفاً يُناقضُ غرابةَ البقاء على قيد الحياة. وكأنّه جدليّةٌ معكوسةٌ بين الغريب المألوف وألفة الغرابة. المثير إذاً أنّ مشهدية لعب الأطفال بالموت، تجسّد وتؤكّد تطابق الواقعيّ مع المجازيّ، إذ حينما تصبح «الحياة الحقيقيّة غائبة» كما يقول الشاعر الفرنسي رامبو، فإنّ في ذلك دلالة على أنّ «لعبة الشهيد» عند الأطفال تشير إلى أنّ «الحياة هي في مكانٍ آخر» على حدّ قول إمبرتو إيكو. ما معنى ذلك كلّه؟
الأطفال، بما هم أطفال، أي قبل أن يخوضوا في الأسئلة الكبرى، يتعاملون مع واقعهم بعفوية، وقد يكون لنشاطهم معنىً في التحليل والتفكيك، ولكنّهم بالطبع لا يقصدونه. لكن في الحروب، تبدو عملية إنتاج المعنى بغير قصد إمكانيةً لأن يدخلَ لاوعيُ الطفل في النطاق الواعي للسلوك. لأنّ الحرب -بصفتها قاعدة في التاريخ وليست استثناء- هي التي تحدّد مضامين الأنشطة والتفكير. الأمر أشبه بعلاقة البنى التحتية وتأثيرها على البنى الفوقية من المنظور المادّي للتاريخ. فإذا كانتِ الحربُ ضمن هذا الفهم هي من الأمور التي تحدّد وتؤطّر محتوى ما يقوم به الناس لحظة اندلاعها، يصبحُ لَعِبُ الأطفال في غزّة مملوءاً بالمضمون الذي تتطلّبه الحرب. فـ«لعبةُ الشهيد» إذاً ليست ترفاً ولهواً طفوليّاً، بل إشارة إلى ما يمكن أنْ يُقال من أنّ الفعل والقصد عند أطفال غزّة هما الوعيُ الأكثر نضجاً بالحرب. وعلى هذا المستوى من «الاغتراب» عن الطفولة، تحدث المفارقة بين غياب الحياة الحقيقيّة وبروز الحياة الواقعيّة. فيتّخذ بذلك مفهوم اللعب في الحرب بُعداً فلسفيّاً بين الكائن وما ينبغي أن يكون. فإذا كانتِ الحقيقةُ ليست في العالم الحسّي الواقعيّ الذي نحيا به بحسب أفلاطون، فإنّ حياةَ كلّ طفلٍ في غزّة هي واقعٌ غير حقيقيّ، إذ إنّ عالمَ الأطفال وألعابَهم وسلوكَهم يتناقض مع عالم الحرب وأدواتِها وسلوكِها. وهكذا لا غرابة إذاً أن تكونَ الحياةُ في مكانٍ آخر مثلما هي الحقيقةُ عند أفلاطون تقبع في مكانٍ مُفارِقٍ للواقع. فطالما أنّ الطفل في غزّة لا يعرف طفولتَه ولم يعشها بتاتاً على بداهتها، تصبح عمليةُ اغترابه عن جوهر اللَّعِب انسلاخاً عدائيّاً عن حقِّه في الحياة. هم إذاً لا يلعبون حتّى ولو ظنّوا أنّهم يلعبون. وبالتالي يصبح سؤال «ماذا تفعلون؟» وجوابه «نلعب لعبَة الشهيد» نقاشاً لا طائل منه إذا لم يُفهم باعتباره السؤال الأشمل عن مصير الأطفال في غزّة. وبالسياق نفسه، أن يمارسَ الصغارُ دورَ الكبار ولو في اللعِب، أن يجتازوا طفولتَهم صوب حياةٍ مبكّرةٍ عليهم، فما ذلك سوى هيمنةٍ حداثيّةٍ تشرّعُ الآن الحرب التي وهي تذبحُ الأطفال تذبح معهم ألعابهم كذلك. نقول الحداثة، لأنّها -ضمن إيقاع السياق المطروح- انشغلت وصبّت اهتمامَها الفلسفيّ في التفكير باحتمالات حياةٍ كان يمكن أن تكون وتُعاش كما يقول الروائي الإنكليزي «آندرو ميلر». فالإنسان الحديث هو الإنسان المُطارَد بالإمكانات المفترضة من أحلامٍ وأمنياتٍ، هو الإنسانُ الذي يلاحقُه شبحُ الحيواتِ التي لم يعشها. لقد أسقطَ «الإنسانُ الحداثيُّ» وما بعده، مشكلاتِه وإشكالياتِه علينا، لقد اصطدم بحقيقة أنّ أمامه فرصة واحدة وأخيرة للعيش، ويحاول الآن أن يفرضَ على الجميع وخاصّةً على الأطفال في غزّة ذات المساوئ التي ظهرت أمامَه. فإذا «موتُ الإله» أودى إلى البحث عن بديلٍ أفضل لمواجهة مجهول الأبدية فإنّ مفهوم «الفرجة\الاستعراض» هو المُعادل الحداثوي الذي ينصّب نفسه بديلاً لما كان يُمكن أن يكونَه الإنسان الحديث. والشيء المماثل يحصل في غزّة. إنّ «موت اللعبة» هناك يعني أنّ ليس أمام الأطفال في الحرب إلّا هذه الحياة الوحيدة التي لن يعبروها صوب فضاءٍ أوسع في فرص الحياة والنجاة، الأمر الذي دفع بالأطفال للبحث عن بديلٍ يعبرون من خلاله ما كان يجب أن يعبروه بسلاسة وبسلامة الخطّ الزمني للحياة، فكان أن اجتازوا ما اكتنزوه من سنينَ قليلةٍ نحو مرحلةٍ فرضت تجاربَها الناضجة عليهم. فما لعبةُ الشهيد إلّا تجسيدٌ فعليٌّ لموت اللعبة والبديل الاستعراضي لما يمكن أن يكونوه في لعبة المصير الحتميّة.

«بدّي إلعب، بدّي إلعب بس»
هذا ما تتمنّاه طفلةٌ من غزّة. اللعب هنا لا شكّ يخرجُ عن معناه التقليدي ويعارض اللعب المجّاني. ينظر إيمانويل كانط إلى اللعب باعتباره نشاطاً لا غاية له سوى اللعب، فإذاً هو مُنزَّهٌ عن الغرض. ولكن أمنية اللعب في غزّة تتضمّن نشاطاً نفعيّاً بالمعنى النفسي والاجتماعي. فلا يغدو اللعب محض تسليةٍ إلا لدى الشرائح والمجتمعات التي تعيش حياةً سليمةً وآمنةً. معنى التسلية هنا أنّها نشاطٌ خاوٍ من أيّ نفع بينما أمنية اللعب أثناء الحرب تتّخذ تأويلها من الحرب ذاتها. يخبرنا المسرحي شيلر أنّ «اللعب يعبّر عن الرغبة في الانعتاق من الواجب والضرورة ويقيم ملكوت الحرية والطمأنينة والصفاء». وحينما يتحوّل حقّ الأطفال في اللعب بوصفه تسلية مجّانية إلى أمنية، بل إلى أمنية وحيدة، حينها يُمكننا القول مع شيلر إنّ «الإنسانَ لا يلعبُ إلاّ حينما يتحقّق معنى إنسانيته، ولا يكون إنساناً تماماً إلّا حينما يلعب». ثمّ إنّ رغبة اللعب تلك، مملوءةٌ ببُعدٍ رمزيٍّ. فإذا كانتِ الرمزية هي الشكل الفنّيّ الذي يُشبعُ في آنٍ معاً رغبتَنا في تصوير الواقع ورغبتَنا في تخطّي حدوده، فإنّ الشيءَ ذاتَه تفعلُه الطفلةُ في غزّة حينما تتمنّى أن تلعب. إنّ اللعب أثناء الحرب يجمع بين المحسوس والمجرّد، فيصبحُ اللعبُ رمزاً لتخطّي الواقع العدواني المحسوس من جهة، وللتماهي مع اللهو المنضبط، وهو النقيض للحرب من جهةٍ ثانية. على هذا المستوى يصبح اللعبُ منطقة وسطى بين الشعور بالخوف من العالم الواقعيّ (الحرب) والهروب منه عبر خلق عالمٍ مجرّد يتّسع لمخيّلة الأطفال.
هذا العجز في الواقع الذي ينشأون فيه يحتاجُ إلى الثابت الوحيد لديهم وهو اللعب، من أجل أن ينقلوا واقعهم المُفزِع إلى حالةٍ أكثر أمناً وأماناً، تشبههم ويشبهونها وهي حالة اللعب. وبالتالي تصبح أمنية اللعب في الحرب معياراً أخلاقيّاً هامّاً. فإذا كان أساس نقد هيغل للمبدأ الأخلاقي عند كانط قائماً على اعتبار أنّ معيار الأخلاق عنده يشير فقط إلى ما لا ينبغي فعلُه ولكنّه لا يفصح عمّا ينبغي فعلُه، فإنّ لَعِبَ الأطفال أثناء الحرب لا يرتبط بالكيفية التي يريدونه بها، إنّما في ما يريدونه من اللعب في وقت الحرب. وبالتالي يصبح معيار اللعب الأخلاقي مطلقاً وإيجابيّاً وذلك لأنّ اللعب يُفصح عمّا ينبغي فعله للأطفال في الحرب ودونها، في حين أنّ الحرب تشيرُ إلى ما لا ينبغي فعلُه لأنّها مرتبطة بشكل الإرادة لا في مضمونها. وبشكلٍ أوضح: إنّ المطلبَ الذاتي للإرادة في طمس الحقّ الطبيعي عند الآخرين يفتقر إلى الطابع الأخلاقيّ، في حين أنّ إرادة الآخرين وهي تواجه كلّ الذين يحاولون إلغاءها تمارسُ عملاً أخلاقيّاً صرفاً. فأن تتمنّى طفلةٌ من غزّة اللعب فقط، فهي لا تنشدُه على محمل اللهو، ففي جوهر أمنيتها- لأنّها جاءت في وقت الحرب- يكمنُ الفعل الأخلاقيُّ الأساسي وهو رفضُ ما تحدّده الحربُ، أي رفض الشرط الجوهري لتغييبها. فالإصرارُ على اللعب إذاً هو إصرارٌ على المقاومة.

ذكرى:
لا أعلمُ متى، ولكنّي أعرف أنني كنت صغيراً بما يكفي لئلا أستوعبَ ما الحرب. فلم أعش طفولتي على صوت القذائف وأمضيتها وأنا لا أعرف معنى أن أنزحَ من البيتِ مع عائلتي خوفاً من قصفه. ولكنّي أذكرُ ارتعاشتي حينما سمعتُ لأوّل مرّةٍ كيف أنّ ما يسمّيه الأطفالُ أشراراً قد وضعوا في ألعاب الأطفالِ قنابلَ تفجّرُ أرواحَهم. لم يقولوا لي حينها إنّ الجنوب-ذلك الذي تتفجّر فيه الأرواح- أقربُ إلى الطفلِ ذاك من حبل الوريد. هذه الذكرى نضجت. والذكرياتُ التي تَضْبِطُ المُستقبلَ تبقى لأنّها بطبيعتها مرتبطة بالسيرورة. لقد جعلَ العدوُّ الألعابَ أداةَ حربٍ وقتلٍ، ولقد لَعِبَ أطفالُ غزّة «لعبةَ الشهيد» ، فهل هناكَ أكثر جذريّةً من أطفال غزّة في المقاومة؟ يعلّمُنا غوركي في مسرحية الأعداء درساً هاماً «إنّ أسوأَ ما في هذه القضيّة هو أحسنُ ما يُمكنُ أن يكون».