في سنوات الانتفاضة الثانية في حي الطبقة المتوسطة في القاهرة، وفي أعقاب صلاة في رمضان، كانت توزّع مناشير تحرّض على مقاطعة شركات مثل «بيبسي» و«كوكاكولا» و«شيبسي»... وفي صباحات أيام المدرسة كنا أطفالاً ننبذ ذلك الطفل الذي يشتري «كوكاكولا» ويشرب «القازوزة» بعد قراءة اسمها، وعندما يقلب الزجاجة تُصبح «لا مكة لا محمد». أما ذاك الذي يشرب «بيبسي» فاعتبرناه حقيراً يشرب «ادفع كل جنيه لإسرائيل» (pay every penny to save Israel). وبغضّ النظر عن سذاجة تلك النظريات، إلا أنها كانت تبرّر بصفة عامة من ناحية موقف هذه الشركات الحقيقي من إسرائيل، حيث علاقات وطيدة تعقدها تلك الشركات مع الكيان الصهيوني الإسرائيلي وبالتالي، وجب علينا مقاطعتها.

بانسحاب إسرائيل من قطاع غزة عام 2005، خرجت حركة المقاطعة للمنتجات الإسرائيلية (BDS) إلى العالم. لكن لربما تناسى الجميع أننا كنا قبل نشوء هذه الحركة نقوم بمقاطعة تلك الشركات. عادت «بيبسي» و«كوكا كولا» و«شيبسي» مرة أخرى وبقوة إلى السوق المصري. ترتبط أيامنا تلك بذكرى المقاطعة ولو طرأ عليها الكثير من المتغيرات. غير أن تلك المقاطعة لا يمكن اعتبارها أكثر نجاحاً وفاعلية من حركات المقاطعة التي راجت في مطلع الألفية. فالناس عن طريق السوشال ميديا أصبحوا أكثر قدرة على رؤية آثار مقاطعتهم، وتشديد عزم بعضهم على الاستمرار في فعلتهم، وهو ما يتمادى مع فظاعة ما نراه معروضاً في كل لحظة من دماء الأطفال والأبرياء التي تُسفك. نعم، في الماضي لم تكن تغطية الأحداث في فلسطين تعرض المشاهد المروّعة على مدار الساعة. كان يمكن الهروب قليلاً من العار الذي يلاحق الشخص الذي يستمرّ في عيش حياته بينما إخوته يُقتلون. وكل هذا يجعل الأمل في المقاطعة أقوى من سابقاتها. كما أن مقاطعة المنتجات الداعمة لإسرائيل تشجّع على المُنتج المحلي البديل وهو أمر إيجابي يساعد في نهضة اقتصادية ما. وبالفعل فقد أعادت المقاطعة إنعاش مُنتجات محلية مثل «سبيرو سباتس» المشروب الغازي المصري البديل من «بيبسي» و«كوكا كولا». ولكن، هناك شعرة رفيعة تفصل بين نبالة المقاطعة كفعل مقاوم، وهو أضعف الإيمان، والتنطع أو الاستعراض الذي يحوّل المسألة إلى محض مهزلة، لا تشبه جلل الحدث البطولي والمأساوي في الوقت عينه في غزة.

البحث عن «الدبانة»
منذ اليوم الأول لعودة المقاطعة للمشروبات الغازية في مصر، عاد الحديث مرة أخرى عن مشروب غازي مصري طاعن في القدم، يعود إلى 120 عاماً مضت، اسمه «سبيرو سباتس». المشروب المصري كان يُعرف في مصر باسم «بيبسي الدبانة» لأن شعاره هو نحلة لكن التبست علينا رؤيتها فاعتبرناها ذبابة. كانت الأصوات الداعية للعودة إلى شراب «سبيرو سباتس» تسير بالتوازي مع دعوات مقاطعة «بيبسي» و«كوكا كولا». ولكن، مع مرور الأيام، تحوّل الموضوع إلى سخافة وهراء كون جثث الأطفال كانت تتكوّم بعضها فوق بعضٍ. بينما الهم الأساسي هو مقاطعة المنتجات الإسرائيلية من أجل فلسطين نجد أن السخافة والهراء يكمنان في الانشغال بالبحث عن بديل لمشروب «بيبسي» و«كوكا كولا». نظراً إلى شح «سبيرو سباتس» في السوق، وبينما كان الناس في غزة لا يجدون شربة ماء، كان الناس على منصات السوشال ميديا يناقشون البديل الأنسب من «بيبسي». وكأنّ المياه الغازية بصفة عامة هي أولوية من أولويات الحياة. وقد تحوّل البحث عن «الدبانة» إلى مادة خامّ للسخرية، ولآلاف الصور المضحكة التي راجت على السوشال ميديا، وتحوّل الحديث عن الحرب ومأساتها إلى استخراج الحكمة الإلهية الخفية في الرزق، إذ عادت تلك الشركة من ركودها وتصدّرت سوق المبيعات. وكأنّ الله أقام حرباً خصيصاً لإنعاش اقتصاد تلك الشركة، وهو تفسير يمثل أبهى مظهر من مظاهر الرواج الديني في المجتمع.
في الواقع، ليس إسراف الحديث عن «دبانة» «سبيرو سباتس» سوى «مساحة آمنة»، تجنّب المتحدث من الصدام مع الموقف الدنيء الذي تأخذه سلطة بلاده تجاه الأحداث الجارية في غزة. هكذا يجعله الكلام عن مقاطعة «بيبسي» يشعر بأنه متفاعل باستمرار مع القضية وهذا أقصى ما يمكنه فعله. وبخلاف «بيبسي»، طاولت المقاطعة في مصر مطاعم الـ «فاست فوود» مثل «ماكدونالد» و«كنتاكي» وغيرهما من البراندات العالمية، والمقاهي أيضاً مثل «ستاربكس» التي فضحت السوشال ميديا الدعم المطلق من قبل بريند القهوة لإسرائيل. وفي سياق ممارسة المقاطعة لعب التسويق لعبته اللاأخلاقية، التي يعشق ممارستها دائماً عن وعي أو لا وعي، فخرجت مطاعم الـ«فاست فوود» المحلية لتقدم «تورتة» على شكل علم فلسطين، ولتصنع وجبة دجاج اسمها «أبو عبيدة». في الحقيقة، لا أحد يبدي اعتراضه عن التعاطف الكاسح مع فلسطين بكلّ أشكاله المتنوعة، ولكن المسألة الوعرة تقع عندما نقارن بين صناعة وجبة باسم «أبو عبيدة» من أجل الفقراء تُوزع مجاناً إكراماً لهذا البطل، أو إذا ما ذهبت عائدات بيعها إلى صناديق المساعدات الإنسانية لغزة، والحديث عن وجبة تنتفع من اسم «أبو عبيدة» لصالح رأس المال. نحن هنا أمام معنى مشوّه للبطولة، ويضعها في مشهد هزليّ؛ كأن تدفع 6 دولارات لزيارة قبر كارل ماركس.
في مشهد تسليعي آخر للمقاطعة، نرى استبدال بريند «ستاربكس» بإحدى الكافيهات المحلية التي خلقت إعلاناً يدلّ مباشرة على بخس سعر قهوتها مقارنة مع «ستاربكس». الإعلان يقول: «أرخص من سعر بيومي فؤاد»، والأخير هو ممثل مصري، اشترك في موسم الرياض، ألقى خطبة مليئة بالابتذال والتطبيل للسعودية تفوّق فيها على انبطاح صديقه الفنان محمد سلام الراضخ لسياسات المملكة بإذعان. نرى هنا دائرة تسويقية أشبه بدائرة كهربائية منغلقة، لا تهتم إلا باستدرار الأموال عبر ابتزاز مشاعر التعاطف مع القضية الفلسطينية حيث نجد إعلاناً كـ«بيومي فؤاد الرخيص» والذي يعني كوباً من القهوة سعره أرخص من بيومي فؤاد إلا أننا لا نجد للقضية الرئيسية -القضية الفلسطينية- التي نشأ حولها موقف بيومي فؤاد الرخيص أي حضورٍ في تلك الدائرة.

حين كرهت كنفاني ومحمود درويش
في أعقاب ثورة يناير 2011 ألقت القضية الفلسطينية كامل ثقلها على المنتفضين في سنوات الحرية. فقد رمزت الكوفية الفلسطينية في ميادين التحرير والثورة في مصر إلى الحرية والنضال ضد الظلم بصفة عامة. وحين تصدّرت القضية الفلسطينية المزاج الشعبي، ظهرت الكثير من التنويعات التسليعية على هامش هذا الاهتمام، ما جعلني أكره محمود درويش وغسان كنفاني. كره لحالة الطهارة الثورية التي مثّلها كنفاني الذي اغتيل في سنوات الشباب من جهة، ولنص درويش الفذّ، ونفوذه الأدبي وشهرته العالمية من جهةٍ أخرى. هناك شرط آخر مضاف إلى كرهي لهما، وهو وسامتهما، وتوافر سمات فوتوجينيكية لوجهيهما. كل من كنفاني ودرويش أدخلا إلى «السوق»، وأصبحا رمزاً لـ«تسويق» القضية الفلسطينية والربح من ورائها. قبل أن أعرف عن «قصائدنا بلا لون\ بلا طعمٍ\ بلا صوت \ إذا لم تحمل المصباح من بيتٍ إلى بيتٍ!\ وإن لم يفهم (البُسَطاء) معانيها\ فأولى أن نُذَرّيها\ونخلدَ نحنُ\ للصمتِ!» عرفت «سنكون يوماً ما نريد» والكثير من الأبيات المماثلة، التي جعلت من محمود درويش «لايف كوتش» أكثر من كونه شاعراً ثورياً، بسبب كتابة تلك الجملة بإفراط كغرافيتي على حوائط الغاليريهات مثل الكثير من أبيات الشعر المنثورة المبتورة من سياقها، ما أفرغها معناها. أصبحت الغاليري والكافيهات أماكن تعبق بروح القضية الفلسطينية التي سرعان ما تحوّلت إلى «روشنة». وقبل أن أعرف عن «لماذا لم يدقّوا جدران الخزان؟» عرفت كنفاني برسالة «عزيزتي غادة، يلعن دينك»، وعشت لسنوات لا أعرف عن كنفاني، هذا الأديب الفذّ سوى أنه «سمب» (Simp)، يرسل رسائل الحبيب المعذّب إلى حبيبته.
وتلك الكتب لغسان كنفاني ومحمود درويش استطاعت أن تبيع الكثير من النسخ في مصر، بالإضافة إلى أغلفة (Cover) لشاشات الموبايل، وأكواب للشاي عليها صورتهما، و«نوت بوك» بأشعارهما واقتباساتهما والكثير من المُنتجات التي فرّغت أدب الرجلين من محتواه النضالي المُشتبك مع قضية بلاده، وحوّلتهما إلى «رموز» تسويقية للقضية الفلسطينية. ولكن لماذا هم رموز أكثر من شعراء مثل بسيسو وسميح القاسم وتوفيق زياد؟ لم يكن يملك جيلنا إجابة لهذا السؤال ولم نكن لنهتم بالبحث عن إجابة لهذا السؤال. لقد انصبّ تركيزنا كاملاً على التعامل مع القضية كـ«إكسسوار»، وتحوّلت إلى «سلعة» تحمل قيماً من النبالة والبطولة توفرها لصاحبها مقابل حفنة من الجنيهات، وتلبسه قناعاً ثقافياً عن الاشتباك مع الهم الفلسطيني.
في فيلم «طير أنت» هناك اسكتش يؤديه الممثل أحمد مكي الذي يلعب دور شخص خليجي وهو واحد من أفضل المشاهد التي سخرت من «التسليع» حين يسأل أحمد مكي البائع عن القميص «البينك» الموجود خلفه والذي يحمل صورة جيفارا. يسأل البائع: «أووه هذا بوب مارلي؟» فيرد البائع: «لأ.. هذا جيفارا» فيسأله: «محبوب هادا؟» ليجيب البائع: «اييه جداً جداً». يعود مكي ليسأل: «يعني امشي به في الشارع الناس تشاور عليه تعرفه؟» ليقول له البائع: «جداً جداً جداً». فينتهي الأمر بمكي قائلاً:« خلاص هات سبع حبات من كل الألوان» .