ارتبط وجود نموذج «النسوية البيضاء» في عالم الجنوب بذريعة الاستعمار، إذ طرح هذا النموذج نفسه على أنه ملحق بحركات التحرر الوطني، لتقع النساء الغارقة في مشكلاتها وقضاياها الخاصة، في وهم التحرّر من الأصفاد التي تكبلها إذا ما اعتنقتها، إلا أنهن تعرضن للأسر معه مرتين: من مبادرات مموّلة تدّعي التمكين والتحرر من ناحية، ومن سلطة استعمارية قائمة من ناحية أخرى.إنّ شعارات وأهداف المانحين المضمّنة في أجندات «النسوية البيضاء»، كسياسات التنمية، والحكم الرشيد، وإصلاح قوانين الأسرة والمساواة، ومناهضة العنف لا تتناقض مع حاجة المجتمعات إلى التغيير، لكن كل تلك الشعارات تتلاشى عند التطبيق والممارسة. تقتصر تلك الأهداف على نخبة منفصلة عن القاعدة العريضة. نتحدث عن نسويات يشاركن في الندوات والمؤتمرات الدولية، ويعرضن معاناة النساء عبر تجاربهن الخاصة بمعزل عن إشراك نساء أخريات ومن دون أن تكون هموم النساء الأخريات والمشكلات التي تعيقهنّ مطروحة على طاولة النقاش. وفي المحصّلة، تحجز المنظمات غير الحكومية المحلية مقعداً لنفسها في الشبكات الدولية، وتحصل على شرعية تمثيل النساء والنطق باسمهن.

عن الـ«أخرنة» والـ«أختية»:
المُحتَل يقوم على تمييز نفسه في السمات، والأفكار، والمكانة عن المحتلين. يبرر المستعمَر هذا الاختلاف حتى ينزع الطابع الإنساني عن «الآخر» ويستبيحه. هكذا يعرّف إدوارد سعيد مفهوم «الأخرنة»، أو «الآخر» الذي يقابل «الذات». لكن «الآخر» عند ديردا يمثل شرطاً للمعنى. فتعريف الذات أو النفس ليس إلا تأكيداً مستمراً على «الآخرية» (otherness)، لتصبح المعادلة كالآتي: أنا هو «القابلية للآخر».


سنرى هذه المقولة مشوّهة من قبل «النسوية البيضاء»، إذ باتت الأنا وعياً ذاتياً يعترف بالتمايز، ويعرّف نفسه بأنه متميّزٌ عن الآخر في المجتمع. على هذا النحو، تندرج أفكار تدعو إلى التقاطعية لخدمة تلك النظرة «إنّ الاهتمام البحثي من النسويات البيضاوات بالفئات المهمشة» كما رأت المنظّرة النسوية موهانتي، هي وريثة مواقف أنثروبولوجية تعرّف الفلسطينيات كأخريات مختلفات. من هذه النقطة انطلق وجود النسويات الغربيات في شمال أفريقيا، وحدّدن مسار التعامل والتعاون. فـ«النسوية البيضاء» لا تتحدى أي مشكلة من مشكلات الحداثة الأوروبية التي تزعم «تمكين» المرأة لمواجهة الهيمنة الأبوية. بالأحرى، إن «النسوية البيضاء» تُعيد تنظيم هذه الهيمنة ضمن أنماط مختلفة، وفق شروط وعلاقات وظروف من شأنها أن تتغير في الشكل، بيد أنها تُبقي على البطريركية الأبوية. في السياق نفسه، يأتينا مصطلح «الأختية»، وهو مصطلح صُك ليجمع تحته جميع النساء من دون أي اختلاف في القضايا أو في أولوية النضال. هذا المفهوم الفانتزي لا يمكن فهمه سوى مطية تستغله «النسوية البيضاء» لأنه يؤمن لهن مصلحتهن. وبمجرد أن نعود إلى استعارة ثنائية «السيد/ العبد» بتفسير المفكر ما بعد الكولونيالي فرانز فانون، نرى استحالة تحققها، ذلك أنه لا يمكن مثلاً المساواة بين النساء البيضاوات وأولئك في الشرق، أو المساواة بين النساء المستوطنين في الكيان الإسرائيلي مع النساء الفلسطينيات. ثم، عدا عن استحالة اعتبار الفلسطينية «أخت» لامرأة محتلّة، فإنّ مفهوم الـ«أختيّة» يجلب انشقاقاً في صفوف النسويات في الدول المستعمَرة، ذلك عبر إشراكهن في نشاطات ومؤتمرات المؤسسات النسوية ممولة غربياً تحمل مفاهيمها النائية بنفسها عن الصراع مع المحتل، وأيديولوجيا جاهزة، معلّبة، تريد بها إشراك وتوريط جميع نساء العالم في قضاياهن فقط. لكننا اعتدنا على أن من تكرر شعارات «النسوية البيضاء» أكثر، تنال نصيبها من المنح والتمويلات، من دون الالتفات وحمل همّ «التمكين» الفعليّ، والتحرير الحقيقي لنظيراتهن في فلسطين.

تحرّر مقيّض:
ومن المفاهيم التي يعجّ بها معجم «النسوية البيضاء»، علماً أنه لم ينجم عنهن بيد أنه يخدمهنّ، هو مصطلح «سياسة الاحترام» أو «الاحترامية» (Politics of Respectability). و«الاحترامية» هو مصطلح جاء لإسكات النسويات السود في أميركا. نجد هذا المصطلح رائجاً اليوم كسياسة يتم التعامل فيها مع النساء في فلسطين. في صيف عام 1985، عقدت الأمم المتحدة المؤتمر العالمي الثالث لمناقشة وضع المرأة. وثقت الطبيبة والمفكرة النسوية نوال السعداوي ما حدث كونها شاركت فيه. الناشطة النسوية الأميركية بيتي فريدان منعت السعداوي من الحديث عن فلسطين إذ قالت لها: «رجاءً لا تتحدثي عن فلسطين في كلمتك. هذا مؤتمر للمرأة وليس مؤتمراً سياسياً». في مقالة السعداوى المنشورة بدورية «لون العنف» (The Color of Violence) تقول «لم أكترث لما قالته (بيتي فريدان)، لأنني أؤمن بأن قضايا المرأة لا يمكن معالجتها بمعزل عن السياسة». وفي المقالة ذاتها، تسهب السعداوي في شرح وجهة نظرها إذ تكتب «يرتبط تحرير المرأة في المنطقة العربية ارتباطاً وثيقاً بالأنظمة التي نعيش تحت وطأتها، والأنظمة التي تدعمها الولايات المتحدة في أغلب الأحوال، والصراع الإسرائيلي الفلسطيني له تأثير مهم على الوضع السياسي»، ثم تتساءل مستنكرةً «كيف نتحدث عن تحرير المرأة الفلسطينية من دون الحديث عن حقها في أرض تعيش عليها؟ كيف نتحدث عن حقوق المرأة العربية في فلسطين وإسرائيل من دون معارضة التمييز العنصري الذي يمارسه النظام الإسرائيلي». في هذه المقالة أيضاً، تؤكد السعداوي على ازدواجية المعايير لدى النسويات الليبراليات في الشمال العالمي (ومنهن بيتي فريدان)، موضحةً أنهن يمنحن أنفسهن امتيازات بيدٍ ويقيّدن أصوات نسويات الجنوب بيدٍ أخرى. وتُرجِع السعداوي ذلك إلى رغبة نسويات الشمال في منع نظيراتهن في الجنوب من التعاطي والتفاعل مع مختلف القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية من وجهة نظر نسوية، وتحجيم مقاومتهن لتتركز في الاحتجاج على الأبوية في مجتمعاتهن فقط.
نجد أن المرأة الفلسطينية محصورة، بكامل وجدانها وحقوقها، في تفسيرات وتأويلات النسويات البيضاوات اللواتي تزعمن تمثيلها. نتساءل مع بيث براون «إلى أي حدٍّ أصبحت النساء أنفسهنّ عبارة عن «مواقع للذاكرة»؟ أو بالأحرى رموزاً لحدث أو لحركة؟ هل تصبح النساء رموزاً لأنه جرى استبعادهنّ، أم أنهنُّ استُبعدنَ لأنهنّ رموزٌ بالفعل؟». إن الظروف التاريخية تضع المرأة الفلسطينية في سياقها الحقيقي وتجعل رمزيتها تطوف على الوجه. المرأة الفلسطينية هي المرأة المقاومة. فحتى في خضم الجدل حول مدى صلاحية «النسوية» في ظروف المجتمع الفلسطيني، بدا هناك اعتراف تام بأن النساء الفلسطينيات يشاركن بصورة لا تقلّ قيمةً وفاعلية عن المقاومين الرجال في مناهضة الاحتلال. فدائماً ما كانت المرأة الفلسطينية جزءاً من حركة المقاومة الشعبية في وجه المخططات الصهيونية، وساعدت على ترسيخ فكرة أنّ التحرر الوطني سيكون ناقصاً من دون تطبيق العدالة بين الجنسين. هكذا سنعثر على إجاباتٍ لأسئلة وردت في الآونة الأخيرة مثل: لم يستهدف الإسرائيلي النساء حتى بات عددهن يفوق 4 آلاف امرأة مستشهدة؟ لم تُستهدف النساء الحوامل؟ لم تضطر أكثر من خمسين ألف امرأة حامل لإجراء عمليات الولادة من دون كهرباء أو إمدادات طبية تحت قصف جيش الاحتلال الإسرائيلي؟ إنّ المرأة هي شريكة في حركة التحرر الوطني، والتحرّر من الرجعية.
تُبتر رؤوس النساء الحوامل والأجنّة تقتل في أرحام النساء لأنهم مصدر خوف. مصدر يعلن عن ميلاد مقاومة جديدة وصمود مستمر. يقتل الاحتلال الحياة قبل أن تكون، ترعبه حياة النساء، وحياة الأطفال قبل أن توجد. والأطفال هم بتعبير إبراهيم نصر الله «طيور الدنيا الجميلة».

التحرّر قضية نسوية:
من الصعب فصل النضال النسوي الفلسطيني عن النضال الوطني في سبيل التحرر من الاحتلال الإسرائيلي، نظراً إلى ترابطهما وتشابكهما المتين. فالنساء الفلسطينيات يواجهن قمع المجتمع الأبوي وقمع المحتل في آنٍ معاً. عندما نتكلم عن نضال وطني فإننا نتكلم عن رفض تام لحصر النسـاء في مهمات الإنجاب والتربية المستمدتان من الثقافة الشعبية. فضلاً عن ذلك، لا يمكن تجاهل حرمان الفلسطينيات من حقهن في التعليم، والحصول على وظيفة، والاستقلالية، والقرار الحر. تتعرض النساء الفلسطينيات لمنعٍ غير مسبوق، حتى حريتهن في التنقل ممنوعة نتيجة القيود التي يفرضها عليهم الاحتلال. تفيد مؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان في فلسطين، بأن قوات الاحتلال اعتقلت أكثر من 13 ألف امرأة فلسطينية بين عامَي 1967 و2019، سواء في الشارع أو أثناء عبورهنّ الحواجز أو بعد اقتحام منازلهن ليلاً. وتبين شهادات العديد من النساء اللاتي اعتقلتهن قوات الاحتلال في مدة ما في حياتهن، والموثقة إمّا إعلامياً أو عبر مؤسسات حقوقية، أنهن أكثر عرضة للعنف القائم على النوع الاجتماعي، بخاصة العنف الجنسي، الذي يتعقبهن أيضاً في المنزل، والمدرسة، والجامعة، والشارع، والمواصلات من جنود الاحتلال. هذه المسائل والأحداث لا تتحدث عنها «النسوية البيضاء»، ذلك لأنهن على تواطؤ مع الاحتلال، ويشاركونهم مهام الأسر، والتضييق، والقتل الرمزي.