امتداداً لسطوة المنع التي تُطارد كل مَن هو فلسطيني وتقصّي حضوره أو مشاركته في الفعاليات الثقافية والفنّية العالمية، مثلما سبق وحدث مع الروائية عدنية شلبي التي مُنعت في الشهر الماضي من تسلّم جائزة أدبية ضمن فعاليات معرض فرانكفورت للكتاب، سحبت إدارة «كريستيز» لوحتين للفنان التشكيلي اللبناني أيمن بعلبكي كان من المفترض عرضهما في مزاد علني في يوم 9 نوفمبر من هذا العام في مدينة لندن. القطعتان المسحبوتان شملتا لوحة «المُلثّم» التي رسمها بعلبكي عام 2012 وتصوّر رجلاً مقنعاً بكوفية حمراء زاهية، تُعيدنا إلى وجه المُلثم في الانتفاضات الفلسطينية والشعبية، بينما اللوحة الثانية وعنوانها «مجهول»، وقد رُسمت بين عامَي 2011 و 2018، لرجل يرتدي قناعاً مانعاً للغاز المُسيّل للدموع، والذي يُطلق عادةً لتفريق الحشود الشعبية في التظاهرات، ومكتوب على رأس صاحب القناع كلمة «ثائرون».
«الملثم»، أيمن بعلبكي

بنفس الاستسهال المعتاد بغية التبرير، في تلفيق مسوّغ يُساير موقف المجتمع الدولي، إذ يتم التعامل مع «سلطته» كأنه طفل صغير، برّر مسؤول في «كريستيز» أنّ الدار تلقّت شكاوى حول عرض العملين الفنيين، فارتأى أنه من المفضل سحبهما من العرض بسبب اللُّبس وسوء الفهم اللذان يحيلان إليه، فـ«وجوه» بعلبكي ترتبط بـ«التطرف الإسلامي»، بخاصةً ونحن في خضم حرب بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية –الصحيح أن تعرّف بحرب إبادة ضد الفلسطينيين- ويمكن لمثل هذه الأعمال الفنّية أن تُفهم على نحوٍ خاطئ، بالنسبة إلى أي مُتلقٍّ ليس على دراية بتاريخ المنطقة. ما حدث، وفقاً لصحيفة «ذا ناشيونال» أنّ دار «كريستيز» تلقّت رسائل نصيّة من جهة لم تكشف طبيعتها وتطلب من «كريستيز» سحب اللوحتين.
تُعيدنا حوادث المنع هذه، التي تكرسّت أخيراً في إقصاء «كريستيز» لأعمال بعلبكي، إلى زمن الصعود النازي في ألمانيا ومشروع إبادة اليهود. الإبادة التي أصبحت الآن سيرة سياسية لمعاناة تستغلها إسرائيل وتتكئ عليها لشرعنة محرقتها تجاه غزّة. خلال ثلاثينيات القرن الفائت، أعلن أدولف هتلر المعركة على الفن الحديث، مهدداً بتطهير الفن من الشوائب و«الشواذات» التي تصيبه، محدداً منهجية جديدة للفن الصحيح، هو «الفن الألماني» القائم على اعتبارات سياسية، في حرب استئصال لكلّ ما لا ينتمي إلى العرق الآري. وصف النظام النازي كل ما هو «تجريدي» و«حديث» بأنه «فن منحط»، فحظّر تداوله. أقيم معرض «الفن المنحط» عام 1937 وقد عرض فيه لوحات لعباقرة الفن الحديث، مثل بيكاسو، وبول كليه، وبيكمان وكاندينسكي. ثم افتتح هتلر في نفس العام بيت الفن الألماني، داعياً أن يكون في خدمة أيديولوجيا الحزب الاشتراكي القومي العمّالي الألماني.
بنفس أسلوب الردع الغاشم لكن مع التحفّظ على غياب القدرة الإسرائيلية على الظهور، أي بنفس الوجه الهتلري، يُلاحق الوجه المُلثّم ويُمنع من أي حضور. المنع هنا يأتي كردة فعلٍ على الشعبية المُمتدة عربياً للمتحدث العسكري باسم كتائب القسّام أبو عبيدة. يظهر أبو عبيدة منذ بداية طوفان الأقصى ويطّلع الناس على حيثيات الحرب، فينفي تصريحات للجيش الإسرائيلي ويتحدث كندٍّ، بثقةٍ وبنبرة حازمة، بأن ما يحدثُ على أرض الحرب مختلف عن السردية المزعومة، إضافة إلى تناوله لمختلف تصريحات الجيش الإسرائيلي، المُتعلقة بأمر الرهائن لدى كتائب القسّام ومُختلف فصائل المُقاومة.
غير أن الوجه المُلثّم هو، تحديداً، الوجه الفلسطيني المُقاوم. وبالتعريف، هو وجه مُتجاوز للأيديولوجيا، يمثل المشهدية البصرية للمقاومة الفلسطينية وما أفرزته من أيقونات ورموز، لها مرجعيتها الكبيرة في الوعي الجمعي الفلسطيني والعربي والعالمي، حتى تبدو هذه الأيقونات رموزاً تبلور السعي إلى التحرر. في الانتفاضة الأولى، ثم الثانية، تشكل عبر الوجه المُلثّم مصدر بصري؛ يمكن أن يكون هذا الملثّم حاملاً للحجارة في يده، وكثيرٌ منها مُلقى في أرض المعركة. أما الآن فيمكن للملثّم أن يحمل مولوتوف ويفجرّها في عربة عسكرية أو سيارة لشرطة المُحتل، أو حتى في جسد المُحتل ذاته، لأن فعل التحرر، ومُحاولات تحققه المُتتابعة، هي فعلٌ عنيف على كل حال، عنيف بنفس درجة عُنف الاستيطان وقتل المدنيين، ولا يُمكن أن يتحقق الخلاص إلا بعنف مُماثل. الوجه المُلثّم ذاته، يمكن أن يحمل سلاحاً نارياً ثقيلاً، ويدمّر دبابة المحتل.
أيقونة المُلثم مُفعمة بالغموض والتخفي، ليس لأنها اختارت ذلك بل لأن الطرف المُحتل لديه قدرته في تشكيل قالب يطفح بإدانة هذا الوجه. إدانة تعريفه الهوياتي، مشكلاته الثقافية المحلّية، وكذلك ذاكرته. لذلك فليس عليه سوى الاختباء، والاكتفاء بملمح بعيد للوجه ولو كان الصوت واضحاً، فذلك يحقق الظُهور من جديد. فالسلبُ هنا، والمزيد منه، لا يُمكنه أن يولد سوى الغضب الذي يتلحف به الوجه المُلثّم ويُعاود الظهور بأدوات أولية مصحوبة بغضبِ الاستيطان الذي يحاول إخفاءه. تشتبكُ الهوية الذاتية للملثّم مع تورطه في علاقة تتداخل فيها عناصر صورة ناقصة، تكتمل بالإرث الهوياتي في اللثام والبُعد الثقافي الحاضر في نُقوشه. فحنظلة الساكنُ في الذاكرة العربية، مُتجاوزٌ لزمنه، وربما سيتجاوز زماننا، ويظل طفل المخيم الذي لا نرى وجهه المُحتج علينا وعلى العالم، والرافض لواقع يُصعّد الصراع على الأحقية في الوجود.
لا يتوقف مدلول «الوجه المُلثّم» عند توجهٍ أو قصدية سياسية لأنّ نشوءه أثناء الانتفاضتين الأولى والثانية، جعله حصراً، تعبيراً عن المقاومة وهوية لها. مع ذلك، الوجه الذي لا يبدو منه سوى العينين، وكذلك الوجه الغائب، مُمارسة نضالية وشعبية ذات بُعد عالمي. مُمارسة تقوم على العنف كضرورة وردّ فعل.
منذ أربعة قرون في بريطانيا، حاول جاي فوكس تفجير مبنى البرلمان وحثّ الناس على ثورة ضد الظلم والتمييز والعُنصرية. عُرفت هذه الحادثة بـ«عملية/ مؤامرة البارود». ورغم أن فوكس غُدر به وعُذّب ثُم أُعدم، غير أنه أُعيد إنتاج حكايته بصبغة مُستقبلية في فيلم «V for Vendetta» إذ يُحاول «V» من وراء قناعه أن يثور على نظامٍ فاسدٍ ويُفجّر مبنى المحكمة العليا القديم، وفي الصباح التالي ينجحُ في نشر خطابٍ تلفزيوني مُسجّل ليسمعه الناس في كل أنحاء بريطانيا، داعياً إياهم إلى كسر حاجز الصمت والخضوع لرمز الدولة، الأخ والمستشار الكبير. ظهر قناع «فينديتا» في أحداث ثورية لاحقة للفيلم، وما زال حاضراً من وقتٍ إلى آخر في سيل التظاهرات التي تتكرر في الدول الأوروبية. بطبيعة الحال، لا يحصل قناع «V» على نفس مستوى المقاومة أو قمع الوجه المُلثّم الفلسطيني، لكن ملمح الانزعاج المؤسساتي على القُدرة، والتأثير وخلق رد فعل من وراء حجاب، يظل ملمحاً مشتركاً.
يحظى ملثّم كتائب القسّام بالانتباه الكبير لأنه يستعيد رمز المقاومة الفاعل بدرجة قادرة على رد فعل شرس ظهر بعد غياب طويل. يباين الفنان مُنذر جوابرة بين مُلثّم الأحداث الفلسطينية المُقاومة قبل اتفاقية أوسلو، وبين مُلثّم ما بعدها عبر لوحاته الفنّية. في عام 2009، في مدينة رام الله، تلثّم جوابرة بالشال الأحمر، ومرّ على الناس يوزّع عليهم حجارة ويعرض عليهم أسئلة، ليفاجأ بأن رد فعل الشباب مُغايرٌ لرد فعل أجيال عاصرت الانتفاضة الأولى في عام 1987. خلافاً لرأي مُنذر جوابرة واعتباره المُلثّم الفلسطيني الحديث فاقداً لكثير من ذاكرة مدلول وجهه البصري والهوياتي، يستعاد نفس الوجه الآن في صيغة جامعة، مُفعمة بذاكرة ضخمة، تُكثّف الزمن في لحظة رغبةٍ في التحرر، لن تتحقق بنهاية هذه الحرب طبعاً، لكنّها تُمثّل حراكاً مفصلياً، سيُغير مُعطيات القضية الفلسطينية جُملةً وتفصيلاً.