ظهر «نتن ياهو» في إحدى الصور التي انتشرت على الإنترنت في خضمّ الحرب الضارية على غزّة، وهو يتناول عشاء مع جنوده، يقوم بمؤازرتهم وصقل معنوياتهم قبل أن يقصفوا، على الأرجح، مستشفى أو مدرسة. ما لفت انتباهي في تلك الصورة، لم يكن بالطبع، «نتن ياهو» الذي يحرّض على قصف الأطفال والمدنيين في غزة، فهذا موقف اعتدنا عليه، وهو موقف واضحٌ منه بوصفه عدوّاً، وبالتالي من الممكن «فهمه» أكثر من فهم وتفهّم مواقف كثير من حمائم السلام، المتصهينين العرب، الذين أودّ أن ألقي عليهم اللعنات قبل أن أسترسل في مقالتي. ما لفت نظري في تلك الصورة، وجود أربعة جنود من الصهاينة من البشرة السوداء، ينحدرون غالباً من نسل الفلاشا الحبشيين.
الزنجي المُحتجّ والأسود المُعتدي
في العشرين من يونيو 1967، أُدين الملاكم محمد علي كلاي في مدينة هيوستن الأميركية لرفضه خدمة التجنيد في الجيش الأميركي. رأى كلاي الحرب الأميركية على فييتنام آنذاك بمنزلة تمرين على الإبادة الجماعية لشعب لمجرد أنه ارتضى لنفسه نظاماً سياسياً يتعارض مع رغبة أميركا. قال كلاي: «لماذا يتعين عليّ أن أرتدي زياً وأذهب مسافة 10000 ميل من المنزل وأُسقط القنابل والرصاص على شعب فييتنام الذين لا يُطلقون عليّ لقب «زنجي»، بينما يطلق على الزنوج النار في مدينة لويزفيل ويعامَلون كالكلاب!» وبسبب موقفه المترسخ والمدعّم بوابل من الحجج المماثلة، قرر القاضي جو إنغراهام أن يسقط عليه أقصى عقوبة ممكنة، هي قضاء خمس سنوات في سجن فيدرالي وغرامة قدرها عشرة آلاف دولار.


كان الحكم يهدف إلى سحق محمد علي كلاي وضمانة تحجيمه بالشكل المناسب حتى تفنى مكانته كرمز للمقاومة المناهضة للحرب، فسُحب منه لقب بطولة العالم، وأُوقف عن الملاكمة ثلاث سنوات، ولكنه لم يذعن وبقي يردد: «الملاكمة ليست شيئاً، إنها فقط مرضية لبعض الأشخاص المتعطشين للدماء. لم أعد كاسيوس كلاي، زنجي من كنتاكي. أنا أنتمي إلى العالم، العالم الأسود. سيكون لدي دائماً منزلٌ في باكستان، وفي الجزائر، وفي إثيوبيا. هذا أكثر من المال». لم يكن محمد علي، بالطبع، الرافض الوحيد للحرب، لقد كانت حركة مناهضة الحرب على فييتنام غالبها من البيض، أشهرهم جون كيري، إلا أن موقف محمد علي يربطنا أكثر بقصتنا مع «الفلاشا»، الذين يقاتلون اليوم مع «نتن ياهو» لتحقيق «الحلم الصهيوني الاستيطاني الأبيض». وبالإضافة إلى موقف محمد علي كلاي الأخلاقي آنذاك ضد الحرب، لم يكن محمد علي يريد أن يُحارب لبلدٍ يعامل أبناء بشرته، العرق الأسود، كمواطنين دون البشر. وهذا اليهودي الفلاشا يرتدي زيّ الكاكي الإسرائيلي الذي يعطي بشرته صبغة بيضاء تجعله أكثر ترحاباً في مجتمعه.
قبل أن يجلس «نتن ياهو» للأكل مع جنود الفلاشا، كان قد اعتبر أقاربهم الذين يحاولون الدخول إلى إسرائيل متسللين على أنهم يهددون الديموغرافيا للشعب الإسرائيلي، والطابع الديموقراطي للشعب اليهودي. رغم أن الكنيست أقرّ عام 1950 «قانون العودة الإسرائيلي» الذي يمنح كل يهودي في العالم الحق في الاستقرار في إسرائيل، ولكنّه استثنى وبكل صفاقة يهود إثيوبيا. فإسرائيل لا تعتبر اليهود الإثيوبيين يهوداً، ما يعني أن هجرتهم تتطلب موافقات خاصة. وفي موجات الهجرة في منتصف الثمانينيات، منحت إسرائيل الجنسية لحوالى 125 ألف يهودي إثيوبي بسبب تخوفهم من تغليب ديموغرافيا الفلسطينيين عليهم، ولتتفاخر الدولة بطابعها اليهودي، ولكن اليوم، وأقصد في المدة الراهنة التي سبقت أحداث 7 أكتوبر، فقد أصبح هؤلاء تهديداً يندرج تحت مصطلح «الخطر الأفريقي». فمن استطاع الإفلات منهم في موجات الهجرة الأولى من «الفلاشا»، كان مصيره الحياة في رحاب العنصرية. فأول ما واجهته النساء منهم كانت حملة «يوجنيكس» حيث حُقنوا بوسائل منع الحمل طويلة الأمد، الأمر الذي أدى إلى انخفاض معدل الولادة داخل المجتمع. وفي سياقٍ آخر، كانت الحكومة الإسرائيلية قد دمّرت - سراً - بنك الدماء التي تبرع بها الفلاشا بسبب مخاوف من الأفارقة «حاملي الأمراض» بالطبيعة. لقد اعتبر اليهودي الأشكينازي مثل إيلي يشاي وزير الداخلية الإسرائيلي الأسبق أن الفلاشا الذين ينجبون مئات الآلاف من الأطفال باتوا تهديداً لـ«الحلم الصهيوني». أما حكومة «نتن ياهو» - خارج صورة العشاء -، فقد حاولت أن تعيد الأفارقة إلى بلادهم عبر تقديم الرشاوى مقابل ترحيلهم. وإن لم ينفع ذلك، فإنها قد وسعت مراكز احتجاز المهاجرين في صحراء النقب التي تضّم أكثر من 8000 طالب لجوء أفريقي إلى أجل غير مسمى. لكن هذا كله لم يمنعنا أن نرى في صورة العشاء على حد تعبير فرانتز فانون: بشرة سوداء، أقنعة بيضاء.

القس/الرمز
ربما تعرّض صاحب البشرة السوداء على مرّ السنوات الماضية إلى ترويض. لربما تم إسكاته عبر سياسات التمييز الإيجابي. ورغم كل الأدبيات التي تروي التاريخ كما رآه «الزنوج» وليس من وجهة نظر البيض، يحتفل السود بيوم الدكتور مارثر لوثر كينج، الذي وقّعه قلم الرئيس الأميركي السباق رونالد ريغان في عام 1984، وقد صفقت له أيادي جورج بوش الأب. ويمكنك وفقاً لمسار ريغان وبوش السياسي، أن تتخيّلهما كأرباب عبيد في الجنوب الأميركي في زمن العبودية. غير أن السود في أميركا لا يحتفلون أو يطالبون من أجل الاحتفال بيوم لمالكوم إكس، أو فريد هامبتون أو ستوكلي كارمايكل، ومن الوجهة النسوية نتساءل من يتذكر أنجيلا ديفيس أو كلوديا جونز. بالطبع لن يقرّ الكونغرس الأبيض أياماً وطنية للاحتفال بهؤلاء، فجميعهم اشتركوا بالإيمان بحقّ الزنجي في أخذ حقوقه بالقوة. كما أن ثلاثة منهم شيوعيين أمميين يفكرون في البشرية جمعاء، لا ينظرون إلى الأميركي وحلمه بوصفهما مركزاً للعالم وقنطرة لديمومة حركة التاريخ. لكن الدكتور كينج ودعواته التي لا تحبّذ العنف ولا اللجوء إليه كان نموذجاً أكثر تفضيلاً للمعارضة التي يريدها الأبيض. كان الدكتور كينج قساً بروتيستانتياً معارضاً، أي إن المذهب الذي يعتنقه في النهاية هو مذهب الرجل الأبيض الذي يتسامح مع الميل «المعارض» عند البروتيستانتي لتغليب الثاني على الأول، وكان غاندياً متنوراً ومسالماً، ولا تنسَ أنه كان متعلماً ومن أبناء الطبقة الوسطى. وذلك كله لم يعفه من أن يموت برصاص «البيض».
في شبابه، أجرى مالكوم إكس عملية يدوية كيميائية حرقت شعره حرقاً حتى يحصل على تصفيفة شعر اسمها «كونك» والتي كان يشتهر بها نجوم السينما البيض. وكان الزنوج يتهافتون على أن يفعلوا مثلها لينالوا إعجاب نسائهم السود لمجرد أنهم يشبهون البيض. لقد كان هذا انمساخاً كاملاً للزنجي. يتذكر هذه الحادثة إكس بشعور من العار قائلاً: «إن هذه التسريحة التي يحملها الرجل الأسود على رأسه في كل مكان في أميركا من المدن الصغرى والكبيرة، ومن المطاعم الشعبية حتى الفنادق، وتلك الباروكات الشقراء الملونة بين الأخضر والوردي والبنفسجي والأحمر والفضي على رؤوس النساء السوداوات لتبعث على الشك في أن يكون الزنجي ما زال يعرف أنه زنجياً! لا أعرف أيُّ هذه التسريحات أكثر عاراً؟ أتلك التي نجدها على رؤوس ما يُسمى بالطبقة الوسطى والعالية المفترض أنها واعية؟ أم التي نجدها على رؤوس أولئك المساكين الفقراء غير الواعين؟». وما أشبه الليلة بالبارحة. غير أن الأسود قد تبنى بشكل كامل سردية سيده الأبيض وموقفه مقابل القليل من الإرضاءات إذا ما قورنت بوضع السود الذي لا يزال قائماً ولكن من دون فصل عنصري مقنّن. ولقد خلق ذلك النموذج من التدجين نماذج من أمثلة السيدة كونداليزا رايس وليندا توماس غرينفيلد التي رفعت يداها وبكل حزم لترفض مشروع قرار بوقف إطلاق النار في غزة. حين أرى ليندا أو كونداليزا وأدقق في تصفيفة شعرهما التي لا تختلف كثيراً عن «ميسز كلينتون» أو ثاتشر أتذكر أنهن زنجيات كارهات لأنفسهنّ، كما أسماهنّ مالكوم إكس، تدرجن في مؤسسات مالية ومراكز الأبحاث عابرة القارات في منظومات رأسمالية لم تستوعب إلا 8% فقط، وهو عدد الأثرياء السود في أميركا، والتي يدير اقتصادها بشكل كامل الرجل البيض، بينما هم يكتفون بلعب دور الـ«بلاك واشينج».

فخر ماكلوي
سويلا بريفرمان وريتشي سوناك، الذي افتخر العالم به لكونه أول رئيس وزراء بريطاني من أصل مهاجر، هل يمكن تصنيفهما كسود ذوي أقنعة بيضاء؟ أم تصنيفهما «ملونين» بكل أريحية؟ إن كانا هذا أم ذاك، فالأكثر يقيناً أنهما أطفال ماكلوي الأبرار. ماكلوي هو واحد من أهم مهندسي الاستعمار الأوروبي والبريطاني، هو من صنع الهند البريطانية. كانت الهند محكومة من شركة تجارية حتى بعد التمرد الذي حدث عام 1857. لقد ترأس ماكلوي لجنة التعليم العام في البنغال، ونشر في عام 1834 مذكراته الشهيرة التي كتب فيها إن «رفاً واحداً من رفوف مكتبة أوروبية ليفوق في قيمته كل الأدب المحلي في الهند وعند العرب». وطرح ماكلوي عدداً من التوصيات التي سرعان ما دخلت حيّز التطبيق مباشرة. فكان مشروع ماكلوي هو إدخال نظام تعليمي إنجليزي شامل من شأنه أن يخلق على حدّ تعبيره «طبقة من الأشخاص، هنود الدم واللون، إنجليزيو الذائقة، والرأي، والأخلاق، والفكر». فما من امرئ هندي يتلقى تعليماً إنجليزياً ويبقى مرتبطاً ارتباطاً صادقاً بدينه كما يرى ماكلوي، ويقول إنه لو طبقت توصياته، فلن يبقى في غضون ثلاثين سنة وثني واحد في الهند. ورغم سذاجة هذا التفاؤل الخبيث المفرط، إلا أن سياسات التعليم حوّلت الوثنيين إلى إنكليزيين ثقافياً. لقد خُلقت أقلية في الهند ربطت بالمتروبول، هؤلاء من الذين درسوا وتشكلوا في شبابهم في إنجلترا، ولدى عودتهم لوطنهم عاشوا كما أنهم بريطانيين وفقاً لمعايير أنكلوساكسونية وليست براهمانية هندوسية. ولا يعني هذا أن الإنجليز البيض تقبلوا الهندي المتروبوليّ على أنه مساوي معهم بكل الأحوال. ومن «أطفال ماكلوي» من هاجر وعاش في بريطانيا أو مستعمراتها، في أوغندا وسيشيل وجنوب أفريقيا. ومنهم من ظل في المجتمع الهندي وهم ليسوا بأقلية، فكثير من الأعمال الفنية الهندية الحديثة مثل «The White Tiger» و «Scam» كثيراً ما توجه النقد إلى تلك الفئة، وأضيف لهم الهنود المتأمركين أيضاً. ناهيك عن الإحياء الهندستاني الذي يهدف للتخلص من السيطرة اللغوية للإنجليزية على الثقافة الهندية. لقد عاش «أطفال ماكلوي» في مجتمع منعزل عن شبه الجزيرة الهندية، وعملوا في الراج البريطاني بحماسة تفوق حماسة الموظفين البريطانيين أنفسهم، وأسهموا في تجييش شعبهم من الفلاحين الحفاة الفقراء للدفاع عن بريطانيا في حروبها اللانهائية، ونهب مواردهم الزراعية لمصلحة المتروبول. لقد كان «أطفال ماكلوي» كومبرادوريين من الطراز الرفيع لدى السيد الأبيض، ولما كبروا وهاجروا وعاشوا في قلب المتروبول، فما العجب في أن يُنجبوا سوناك وسويلا.