حفلت طفولتي ومراهقتي، مثل بقية أبناء جيل التسعينيات، بمتابعة عروض المصارعة الحرة. كنت مأخوذاً بقصة «إخوة الدمار» الأيقونية، التي جمعت بين «أندرتايكر» وأخوه «كين». قام سيناريو الأخوّة بين المصارعين على مرحلة مركزية من مسيرة شخصية «أندرتايكر»، فالرجل الميّت كما اعتاد أن يلقبوه، فوجئ على الحلبة بمعلمه السمين القصير «بول بيير» يفشي سرّه أمام الجمهور. أشعل «أندرتايكر» أو «الرجل الميت» منزله وهو صغير، فماتت عائلته إلّا أخيه «كاين»، الذي عاد من قلب الرماد، بقناع يُضفي على الشخصية بيرسونا مُلفتة، ليولد سيناريو جديد في عروض المُصارعة. نرى خصومة «كين» مع أخيه أحياناً، نرى أنهما متحدان وعلى وفاق أحياناً أخرى، ومع أن شخصية «أندرتايكر» كتبت لها جودة عمرية طويلة، وحفلت بصراعات وأحداث استثنائية، لكن جانب الضحيّة في شخصية «كاين» أنقذه من أن يكون مجهولاً، بل وأضفى عليه حضوراً أقوى من حيّز التطور المرسوم له. كان ميلاد العروض الاستعراضية في المصارعة الحرّة محدوداً وقائماً على حجم مبيعات تذاكر الحضور المباشر، حتى جاء فينس ماكمان ليغيّر مجريات ومستويات الربح من هذه الصناعة، فانتهت هذه اللعبة الاستعراضية إلى تشكيلها جزءاً كبيراً من طفولتنا ومُراهقتنا، ولتحظى شخصية «كاين» الصامتة، وليدة النار، بالتواجد الاستثنائي من بين كُل المُصارعين الذين كانت لهم سيناريوهات أكثر طولاً وملحمية. وبطبيعة الحال، كان على عالم المصارعة الحرّة أن يجعل آليات عروضه متورطة في قالبين: الأول يقوم على الاستطراد، فالشخصية يجب أن تولد من أزمة درامية ثم تسحبها إلى خلق علاقة مع الجمهور، ومن جهة ربحية، فالاستهلاك والتتابع أساس لتراكم رأس المال. لذلك فإن قصة «كاين» لها مصداقية في طفولتنا، ليس فقط لتماسّها مع بعد حقيقي متوهّم، ولكن لأنها قصة طويلة، لا تقوم على التكثيف والانتهاء الذي بدوره يولّد وعياً بالمسافة بين الحقيقة، حقيقتنا كمُتفرجين، وبين مجاز أي ما هو معروض أمام الشاشة.
في خضم أحداث أيامنا التي تصارع خلالها الحقيقة للظفر بحقّها في الحضور، يُعاد فتح حكاية جديدة، بلا سيناريوهات مسبقة ولا استطراد طويل نضمن معه أن يعود الأمر إلى حاله الطبيعي. في 11 أكتوبر من عام 2015، كانت الفلسطينية إسراء الجعابيص تنقل بعض أغراضها من بيتها إلى سكنها الجديد في القدس الشرقية، ومعها في السيارة أنبوبة غاز فارغة وجهاز تلفاز. عند اقتراب إسراء من أحد حواجز التفتيش بحوالى 1500 متر، تعطّلت سيارتها بسبب تماس كهربائي ما أدّى إلى انفجار الوسادة الهوائية، ومن ثم اشتعال السيارة. خرجت إسراء مسرعة ليقابلها شرطي إسرائيلي وسلاحه مرفوع في وجهها، ويصرخ بالعبرية «ارمي السكين»، بالرغم من أنها لم تكن تحمل شيئاً في يدها، ولم تستطع تجاوز النار المندلعة جراء اشتعال السيّارة. بعد اعتداء وسحلٍ من قِبل الشرطة الإسرائيلية، تم نقل إسراء إلى المستشفى. لم تتلقَّ علاجاً فعّالاً، بل تم إهمالها عمداً. لم يُطلعها أحد على تفاصيل حالتها. في أغلب الوقت، كانت إسراء مُكبلة بيدها اليُسرى ورجلها اليمني بالسرير، وحتى مع قضاء حاجتها كانت تُكبّل على كرسي الحمّام، إضافة إلى السماح لها بعبوّة علاجية واحدة لا تكفي حروقات جسدها. حكم على إسراء بالسجن 11 عاماً، إضافة إلى غرامة مالية قدرها 50 شيكلاً في أكتوبر 2016، بتهمة تنفيذ عملية إرهابية. سحبت منها بطاقة تأمينها الصحّي، مُنعت من استقبال الزيارة عدّة مرات، والآن يدرج اسم إسراء ليتم الإفراج عنها ضمن عمليّة تبادل الأسرى بين المُقاومة الفلسطينية وإسرائيل.
طوال سنوات اعتقالها، ظهرت حملات تدوينية بلغات مُختلفة للمُطالبة بإطلاق سراح جعابيص، أو على الأقل علاجها. جاءت دعوات من نشطاء فلسطينيين حتى تصدّرت في عام 2021 «المؤسسة الدولية للتضامن مع الأسرى» حملة دولية تطالب بخروجها من السجن. وفي ذلك الوقت كانت إسراء تحتاج إلى ثماني عمليات عاجلة في مُختلف أعضاء وجهها، ولعلاج إصابات قوية في يديها وأصابعها التي أكلتها النيران.
المُفارقة بين صورة إسراء قبل الاعتداء وصورتها بعدها، تشير إلى أن المزاج الاستهلاكي الذي صنع قصّة «كاين» وقناعه، لا يُمكنه أن يحوّل الإبادة الحاصلة إلى إحصائيات ومتون خبرية طوال الوقت. مُنذ بداية القصف على قطاع غزّة بعد السابع من أكتوبر، نتابع كُل يوم تزايد أعداد الموتى، وكذلك المُصابين. المستشفيات تخرج عن الخدمة وتُقصف وتُقتحم. يتم ترحيل السكّان من الشمال إلى الجنوب، وزخم الأخبار هذا يجعلُ الشهداء الذين كانوا حكايات لها خصوصيتها سابقاً، كتلاً موضوعية وإحصائية الآن. الموت بما يحمله من أصالة وقداسه، عُرضة للتهميش أمام موت جديد وإحصائية أعلى.
يعيدنا خبر الإفراج عن إسراء جعابيص إلى أبدية الحكاية أمام وحش الاستهلاك. ليست الحكاية التي نحتاج أن نستعيدها أو نكملها على أمل أن تنصف ولو جُزئياً، وإنما الحكاية التي لديها منطق ذاتي في إعادة الإنتاج من قلب الرماد، ولو بملمحٍ من الحياة، بحروق كثيرة ومن دون أصابع يد، لتخرج من إطار الإحصائية إلى الحُضور المُستقل من جديد، أكبر من سلطة الشاشة على أن تؤطرها وتجعلها عُرضة للتجاوز.
من كتاب «الفيلم: مقدمة قصيرة» يُذكر لرولان بارت تناولاً مهماً حول الشاشة المُعاصرة، بما تشمله من شاشات للفيلم والميديا والأخبار والإعلانات، هذه الشاشة تُحب الموت، تُحب أن تختبر أشياء جديدة، أن توجد مصارعاً نتعلّق به عبر أثرٍ رجعيّ، بينما يكمُن وراء مظلوميّته شخصية سياسية في المُجتمع الأميركي. جلين جاكوبس مؤدي شخصية «كاين»، هو الآن عمدة لمُقاطعة بولاية تينيسي، جاء من خلفية يمينية مُحافظة، وربما يكون الآن آلية دعاية لدعم إسرائيل في حربها على قطاع غزّة، لكن على الجهة الأخرى، ثمّة حكاية تُمثّل الشاشة أحد مراحلها، وحينما يتم تجاوزها، وتأطيرها ضمن النسيان، فإنها تُجيد إحياء نفسها من جديد.