مجموعات من الأطفال يتحركون في مسارات فوضوية، يخلقون بحركاتهم دوائر فارغة، يسيرون مقابل بعضهم البعض ويتبادلون إشارات بأجسامهم. بعيونهم يتحدثون. يحركون رؤوسهم بإيماءات وحدهم يفهمونها. هتفوا فهتفت معهم: نحن الدائرة، للأرض كنا القمر، وفي رقصة أزلية نكرر خطواتنا بلا أثر، لنرتجل،محاولين الإمساك بكل ما يجمعنا كبشر.
ننطلق من افتراضية تقول: لتتعرف إلى ما يجمعك بالبشر لا بدّ من تحديد ما يفرقك عنهم. الحركات الجسدية تفضح هذا الفرق فتبرز الهوّة الكامنة بين إيماءات أجساد الطبقات الحاكمة، وإيماءات أجساد شعوب المخطوفة المستعمَرة. نحن إذاً أمام جسدين، بالأحرى شعبين، وبالتالي لغتين. لدينا لغة الشعوب المحتلة، وهي لغة أرضية سفلية، ومشفّرة، وحيوية، ومتوترة ومتحررة وهذا ما نقول عنه الرقص. في المقابل لدينا أجساد مرتاحة، هي أجساد الطبقة الحاكمة. أجساد يغلبها طابع الانسجام، والتناسق. هي أجساد تتعاطى ضمن سلوكيات سليمة، وصحية ومرفّهة ولا تمثلها عضلات الشعوب المستعمرة.

«الرقص»، هنري ماتيس

مهما بدا الرقص على أنه لغة عالمية كونها تعتمد على الجسد والحواس لكنه نمط إيقاعي أدائي، يستلهم نفسه من الحركات البشرية اليومية. والشعوب وليس الحكام، هم من يخلقون اليومي. نحن أبناء السياق المرقّع، نعرف أنفسنا ونعرف العابرون والمتنازعون. نحن ننتفض بأجسادنا ولأجسادنا وعلى أجسادنا. أجسادنا نصوص بصرية، لأننا فهمنا منذ زمن أن الأجساد الحاكمة تحب المكوث لا الحركة. وعندما يشتعل صراعنا الوجودي، فإن أجسادنا هي التي تتكلم. الربيع العربي عندما انطلق حدث بعد أن أشعل بوعزيزي جسده. الأخير حرق جسده احتجاجاً على الفقر والبيروقراطية. والثورة في مصر، ورغم التنظيم المسبق بين الناس ومرارة القمع والتعذيب في الأقسام منذ عام 2007، ولكن المصريين انخرطوا في الثورة عام 2011 فور رؤيتهم جسد الشهيد خالد سعيد المعذب مقتولاً.
نحن أبناء العالم الثالث مستعمَرون مرة، ومُحتلون مرة و مقموعون ومراقبون دائماً. حددت لنا حركتنا ومساراتها سلفاً. القصف والهدم والموت إيقاعات الأجساد الحاكمة ونواجهها بالرقص ولو أتى على شكل اللجوء والسجن أوالموت. فالأجساد الحاكمة تملك الحل التقني العسكري وأجسادنا المستعمرة تملك الحل السياسي؛ تملك الأسلوب، والرقصات هي فن الأسلوب فتودي بخطاب غير لفظي تقوده الحركة. أن ترقص هو أن تكون فاعلاً وبأسلوبك، أو كما يقول بيير بورديو: «إن مجال الرقص هو نسق يُظهر عبره الأفراد من طبقات مختلفة بشكل واع أو غير واع امتلاكهم وهيمنتهم على أرصدة مميزة ومتنوعة من رأس المال بصوره المتنوعة».
ليس باستطاعتنا أن نفهم تعويذة الرقص إلا بفكّ شيفرات الراقصين: من هم؟ ماذا يقولون؟ كيف يستيقظون من النوم، وهل ينامون؟ وما القصص التي قصّتها عليهم جدّاتهم قبل النوم؟ لأن الرقصة طقس وظاهرة ثقافية لها بنية غير واضحة تشكل هويتها الفعلية، وتعطل دلالاتها لمن هم خارجها.
عندما رقص الشاب الفلسطيني المقاوم ملوّحاً بالمقلاع على أرض المعركة، لم تضف رقصته الانتصار على المشهد فقط، بل بدت كعنصر جمالي. فهو راقص يدبك على أرضه في حركات تشبه رقصة الأشباح التي يرقصها مواطنو داكوتا كتعويذة لاستعادة الأرض والتاريخ. رقصه يتماهى مع ديناميكية جماعته الراقصة للدبكة؛ والدبكة تعني «الخبط بالقدم لإحداث ضجيج». يصنع من رقصته نصف دائرة، برفع القدم اليسرى لتليها القدم اليمنى، يمشي ثم يقفز ممسكاً أيدي أصدقائه الراقصين، يشكلون حاجزاً بشرياً، ويوجد قائد الدبكة في أول الصف مسموح له أحياناً الانفصال عن الصف ليرتجل وفقاً للإيقاع ثم يعود إلى الصف بإيقاع جديد.
والدبكة قبل أن تتحول إلى ظاهرة في المجتمع الفلسطيني نشأت من رحم الطبقات الريفية والفقيرة، ومسموح لجميع الراقصين الارتجال، وإنشاد أغاني الدبكة والتفاعل مع المتفرجين. لكن مع بدايات سنوات الاحتلال على أرض فلسطين وطمع المحتل في سرقة الأرض، وروح الشعوب، حاول الاحتلال الاستيلاء على الدبكة. قرر المحتل سرقة الدبكة مدّعياً أنها من موروثاته تارةً، وأنها نزلت عليه كعطية من الله طوراً. والأخيرة برزت كحجة ميتافيزيقية وتصديقها يعني الإيمان بالمعجزة التي صنعت لهم دولتهم. وبدؤوا التدرب على الرقصة قبل أن «يعصرنوها»؛ وثقوها، وروجوا لها باعتبارها رقصة يهودية. لكن في ستينيات القرن الماضي، استعاد الفلسطينيون الدبكة، وتأسست فرق رقص مختلفة من خارج فلسطين وداخلها من دون أن تمنع الرقابة العنيفة التي يمارسها الاحتلال على وجودها، ولو أن أجساد الراقصين لقت مصير السجن والتعذيب. فالهدف من الدبكة هو تأصيل علاقات الأفراد، وترسيخ «روحية» مجتمعهم بوجه الرغبة العارمة للاحتلال المتوحّش في استئصال عادات وتقاليد المجتمع الأصلي بغية أن يستبدلوه بالمجتمع الوحيد، المجتمع الآخر.
فالدبكة تحمل المعنى الجوهري للراقصين الأوائل، من الفقراء والريفيين الذين رقصوها من أجل الأرض. وبحركات محددة وإيقاع مألوف على الراقصين، تم مسرحة الرقصة في هندام ونص وابتسامة. فالدبكة وإن كانت رقصة جماعية وتقليد يخص هذه الجماعة نفسها إلا أنها أيضاً رقصة لغة غير كلامية موجهة إلى العدو حيث يستمدون منها عناصر كالارتجال مثلاً لمصلحة حركةٍ أخرى تصبّ في «رقصة» المقاومة؛ تلك التي تعرف أنها الضربة الأولى للعدو والضحكة الأخيرة للجماعة. وفي هذا قال فانون «إنّ الشعب يرى في جميع الأزمنة أن عليه ألا يقول الحقيقة إلا لأهل وطنه، إن سلوكه الصريح مع أهل وطنه لكنه منكمش وغامض مع العدو».
وبين رقص المقاومة والرقص السياسي هناك الكثير من الفرق. تختلف رقصة الدبكة عن رقصة التشكيل من ناحية الوعي بالعدو. والتشكيل أشهر رقصة في القاهرة وضواحيها. فرقص التشكيل طقس للتعبير عن النفس، بدأ في الظهور أثناء ثورة يناير، وما زال مستمراً وهو في تطور. التشكيل هو رقص بحركات سريعة تقوم بها الأيادي والقدمين. هي رقصة تخريبية، وجهها اليأس والتباهي في آنٍ. يضرب الراقص ضرباته الوهمية على حلبة الرقص في شتى الاتجاهات، موحياً بأنه يضرب باقي الراقصين. هذا النوع من الرقص لا يعتمد على الصحة الجسدية بل على الحرفية والمهارة، وينتصر من يفلح في تهديده، ليستحوذ على أكبر مساحة ممكنة ويستكمل رقصته منفرداً. ويبدو لي هذا النوع من الرقص يناسب السلطة وعلاماتها وإشاراتها في كل الشوارع، لأنها تعكس عنفها. وها نحن نستمر في ممارستنا لتلك الرقصة السندالية في وجه بعضنا البعض، متجنبين الوحش الحقيقي، فالتهديد عرض مستمر، ولكن فور أن ينظر الحاكم إلى وجوه الراقصين سيقرأ كل شيء.