دلفت العام المنصرم شابة لبنانية برفقة عدد من الشبان إلى فرع أحد البنوك. لم تظهر على أي منهم أمارات الارتباك أو الخوف. أقفل أحدهم الباب بجنزير، واحتجز آخر الموظفين والزبائن رهائن. رشت الشابة مادة البنزين على أرض المصرف، وأشهرت سلاحها في وجه المدير؛ رضخ وأعطاها ما تريده، صعدت لتقف على الطاولة مزهوّة، وبعدها توارت عن الأنظار. بدا المشهد كأنه مقطع ترويجي لمسلسل ما، أو هو فعلاً حلقة من مسلسل اقتحام البنوك في لبنان، والاقتحام بهدف السطو على وديعة من قبل صاحبها، أي إن المودع يسرق نفسه، والوديعة ليست رقماً بل جنى عمر، إلا لمن يُطمئنه مسحوق السرية المصرفية، فيعتمد المصرف غسالة لأمواله. تبين لاحقاً أن سلاح الشابة بلاستيكي، وأنها، بزعمها أنها تريد مالها لعلاج شقيقتها المريضة بالسرطان، كانت تمثّل علينا ضمن مسلسل سياسي ما زال مستمراً إلا أن الأحداث في غزة قد أجّلت حلقاته.
والحديث عن السطو على البنوك يحيلنا تلقائياً إلى المسلسل الإسباني ذائع الصيت «La casa de papel». تزيّن هذا المسلسل أغنية «bella ciao»، وهي أغنية فلكلورية إيطالية، تعود إلى المقاومة التي تشكلت في وجه النازيين في الحرب العالمية الثانية. المقاومة التي قاتل ضمنها جد البروفيسور بطل المسلسل، ومن كلماتها: «وداعاً أيتها الجميلة، وداعاً أيتها الجميلة، وداعاً وداعاً، صباح يوم ما أفقت من النوم، ورأيت وطني محتلاً».
يكوّن الـ«بروفيسور»، الداهية الخجول، عصابة مؤلّفة من ثمانية أفراد يلبسون قناعاً أيقونيّاً، ولباساً موحداً: أحمر قانٍ، وهو اللون الذي يعتمدونه، فسماعة الهاتف حمراء، وحتى الورقة التي يكوّن منها «البروفيسور» طائرة ورقية حمراء كذلك. صفة أفراد الفريق المشتركة أنهم ليس لديهم الكثير ليخسروه. يُطلَق عليهم أسماء حركية، أسماء مدن عالمية، بيروت ليست بينهم كي لا تُضطرّهم الأحداث إلى قتلها فـ«بيروت ما بتموت» قافية مشتركة بين جلّ الأغاني الوطنية الحديثة. كل من في البنك الإسباني بات رهينة لدى العصابة، والمهمة سرقة النقود وسبائك الذهب. يتولى «برلين» («برلين» يغني بيلا تشاو كذلك) القيادة التنفيذية لخطط «البروفيسور» بغية تحقيق الهدف المنشود. والمُشاهد لا يكتشف الخطط إلا أثناء تنفيذها لكي يتفاجأ بالأحداث وهي تحصل، أو ربما لكي لا يفشي سرها. في أحد الحوارات بين «البروفيسور» وأخيه «برلين» التي جرت في حفل زفاف الأخير، الذي يقدِم على خطوة الزواج رغم مرضه وعلمه أنه سيموت بعد سنتين في أبعد مدى، يقول برلين: «الموت قد يكون أكبر فرصة تستغلها في الحياة يا سرجيو (اسم البروفيسور)». وفي هذا الإطار يقول الفيلسوف الألماني هيدغر: «إن الموت هو أصدق لحظة في حياة الإنسان وأهمها، ولا بد له من مواجهتها بمفرده. فإذا قبلت الموت في حياتك، وسلّمت بحقيقته، وواجهته بقوة وشجاعة، فسوف تتحرّر من قلق الموت وتفاهة الحياة، وساعتها فقط سوف تصبح أنت نفسك».
يشهد الموت إقبالاً كثيفاً هذه الأيّام، فروعه في فلسطين هي الأكثر ازدهاراً، تحديداً فرع غزة. إقبال أنهكه فانتظر الهدنة ليرتاح بضعة أيام ثم أكمل عمله. والموت هنا سببه القتل. نرى الموت ونحدّق ملياً فيه، نحدّق أيضاً بأشباه الأحياء، تلك الأرواح المصدومة التي تتعذب جراء ما شهدته وما عانته. أكل الأيام من قبل كيان نهم. القتل عنده رغبة يشبعها، لوحة ينثر عليها ألوان العذاب، ليتشكل مشهد يغلب عليه الأحمر القاني. اللوحة معروضة أمام الملأ والمتفرجون من كل حدب وصوب، يتأملون البنايات التي تهبط بأحجارها الثقيلة على رؤوس قاطنيها؛ مشاهد الجثث، أطفال مرمدة، وأشلاء متناثرة، والدماء تسيل من اللوحة على الحائط وتملأ الأرض، تداعب أقدامهم، فينتعش البعض كمن يضع كرسيّاً ونرجيلة في نهر جارٍ، يأخذ النفس تلو النفس، وينفث الدخان في قمة المناخ. البعض الآخر لا يجد سوى الدموع، فتتهاطل من عينيه وتختلط بالدماء، ولكن يجب أن يتماسك لكي لا يصل إلى العماء، ليشاهد بعينيه نفسيهما التحرير العادل والشامل، التحرير الكامل.
القضية الفلسطينية هي المعيار، معيار نحدد عبره من «نحن» ومن «هم». ليس الدين ولا الطائفة، ليس البلد ولا القارة، كل من هو مع فلسطين هو «نحن». و«هم» كل من هم مع إسرائيل، والمحايدون هم مع إسرائيل حُكماً. الأميركي والغربي المناهض للصهيونية هو منا نحن، اليهودي المناهض للصهيونية هو منا نحن، المؤمن والملحد، كل من هو مع فلسطين هو منا نحن. أما المحايد والمجاهر بدعم إسرائيل، كل من يعد معهم «هم»، كل من يرقص على القبور، أو الأصح يرقص بين الجثث، فالقبور باتت شحيحة، بطن الأرض امتلأت جثثاً حتى أُتخمت، ومما تقوله أغنية «bella ciao»: «وداعاً أيتها الجميلة، إذا مت مقاوماً فعليك دفني... ادفنيني أعلى الجبال، تحت ظل وردة جميلة». ما يحدث منذ أكثر من شهرين، يُعرّفنا ذواتنا، يجعل كلّاً منا «أنت نفسك»، من لا خير فيه لفلسطين، لا خير فيه إطلاقاً، هو شر مصفى. من هنا، تغدو الرؤية واضحة، هناك من يرفض قتلنا وهناك من يشجع عليه، بل ويفرح فيه.
وفي الأزمات الحالكة يبزغ نجم الخبير، الخبير هو الضليع الذي يملك الخبرة في المجال، والقادر على فهم الأحداث وترجيح مآلاتها، وشرحها للعموم، هو الذي يتخطى المشاهدة يتخطى التحديق إلى القول، وثمة من ينصت له ليغرف من خبرته وينير وعيه. ولكن خبرة الخبير لها ثمن. وإن كان ذا ضمير مطاط، يُروّض وفق مصلحته الشخصية، يبيع خبرته في مزاد السرديات ويتبنى السردية التي تجلب له النفع الأكبر. والمرء وفق سقراط «يفعل الشر اعتقاداً منه بأنه سيجلب له بعض الخير» أي إن فاعل الشر -الخبير هنا- يجد الخير في المال الذي سيتقاضاه لقاء بيع خبرته. والمشكلة في اختلال فهمه لما يجلب له الخير، وهو بذلك «لن يجد سبيلاً إلى السعادة مطلقاً». الخبير قد يخلخل الوعي عوض إنارته، قد يبرر النهب، وقد يمهد لاستهداف مستشفى. وقد شاع مصطلح «بنك الأهداف»، ويدلّ على الأهداف التي يقصفها الجيش الإسرائيلي، وبنك أهدافه هو الودائع كلها، كل الأرواح المودعة من قبلة الباري في أجساد فلسطينية، مهما بلغ حجمها، مهما بلغ سنها، بنك أهدافه هو كل نبض، حتى النبض الذي لم ينضب بعد.
الفلسطيني حين يقتحم، يقتحم أرضه، يسطو على أرضه، وبلثامه الأيقوني يقاوم لاسترداد الأرض التي لم تودَع بل استُلّت. الطائرة الورقية تحوّلت إلى طائرة شراعية تحمل مقاومين من أرضهم إلى أرضهم. الفلسطيني تجاوز التحديق، وأصبح يقوم بالتحليق، ويحتجز رهائن في سبيل تحرير أسراه. شعلة المقاومة مستمرة في مسارها، رغم محاولات إطفائها باتفاقيات التطبيع والتآمر. فريق المقاومة يضم شخصيات أو حركات بأسماء مدن، القدس (بصفتها عاصمة فلسطين، القدس كاملة، لا شرقية ولا غربية) وبيروت «يلي ما بتموت» (لا تموت حقاً)، وبغداد وصنعاء ودمشق. الشعلة مستمرة في مسارها، إلى أن تصل إلى بارود الكيان فتزيله، أو ربما قبل وصولها يشتعل من الداخل وينفجر. وخلال الطريق، طريق القدس، طريق إلى «la casa de palestina»، طريق استعادة البيوت الفلسطينية المعلّقة مفتاحيها في قلادات تزيّن الأعناق، تسقط أجساد، وترتقي أرواح. هم الشهداء، والشهيد هو الذي يَقبل الموت بل يُقبِلَ عليه، ويسلّم بحقيقته، ويواجهه بقوة وشجاعة. هو الذي يبذل روحه لتحيا حيوات، هو الذي يبذل روحه على مذبح الوطن، كما قال تشي غيفارا: «الوطن أو الموت». فهو الذي يتصدى للرياح والعواصف بجسده ليدرأ خطرها، هو الربيع، هو الذي يردد: «وداعاً أيتها الجميلة، تلك وردة المقاوم، الذي استشهد حرّاً».
La casa de palestina
أُشعل فتيل الأزمة الاقتصادية في لبنان في أواخر تسعينيات القرن الماضي، والفتيل المشتعل ينير محيطه، يعمي بضيائه، فيظهر الانبهار ويُضمر الانهيار. القطاع المصرفي في مرحلة الفتيل المشتعل كان القِبلة، محور الاقتصاد وعماده، إشادات وجوائز عالمية، وإن حذّر أحدهم من البارود الذي ينتظر وصول الشعلة لينفجر يُتّهم بالتشاؤم. عانقت الشعلة البارود في عام 2019، بعدما مُدّد طول الفتيل في عام 2016 بضعة أمتار، وبذلك ازدادت كمية البارود في القنبلة. حلّ الانفجار وتفتّت الاقتصاد اللبناني، والشظايا أصابت المجتمع.