من العادات الفلسطينية القديمة أنّ الشاب إذا توفّى قبل أن يتزوّج، فإنّ جنازته -إن شهيداً وإن موتاً طبيعيّاً- تُسمّى «زفّة»، ويتمّ التعامل معها وفق ذلك وتنظيمها حسبما يمليه المسمّى الجديد. تدلّل هذه العادة على أنّ فكرة البقاء عبر النسل الواقعي والمجازي تأخذ حيّزاً في اللاوعي الجمعي الفلسطينيّ. فأن تُزفَّ حتّى ولو كنتَ ميتاً أعزباً، فإنّ في ذلك تعويضاً للبقاء والتناسل بمفعول رجعي، أو بالحدّ الأدنى التشبّث بملامسة الحياة باستمرار. يصبح «العرس» بذلك مناسبةً مرتبطةً بالأرض، و«الزفّة» بالمكان، والزواج بالتراب. وكل هذه العناصر مرتبطة هي بدورها مع ضرورة البقاء، تصبح تلك العادة كلُّها بمثابة علاقة بين المكان وبين الزمان، حيث ليس البقاء مطلوبٌ لذاته إنّما مكان البقاء هو المدماك الأساسي لدافع البقاء، وبالتالي يصبح الدفاع عن المكان دفاعاً ضرورياً عن الوجود في المكان. لنتأمّل ذلك، أن تسرق أرضاً لا يعني بتاتاً أنّك تزوّجتها، ولكن في اللحظة التي يرتقي فيها شابٌّ أعزبٌ في فلسطين شهيداً ذوداً عن أرضه ضدّك، يُزَفُّ عريساً مبجّلاً تنعجن نطفُه بتراب الأرض. المفارقة رومانسية رغم حقيقتها ولكنّها خادشة وتكشفُ زيفك وجهلك في كيفية ارتباط الأرض كعِرض اجتماعي وسياسي وثقافي في مخيال الجماعة وتعاملها مع واقع وجودها التاريخي فوق هذه الأرض وداخلها، وهل أبلغ من النفق للاستدلال على ذلك؟ لا تستطيع أن تخلق مفاهيم عظيمة لها مدلولاتها الحسّية والذهنية، وترتبط بها ارتباطاً جماعياً، إن لم تكن مستقرّاً في أرض تربطك معها علاقة وجودية. ولأنّ الأمر كذلك فإنّ تلك العادة الفلسطينية هي تجسيد طويل لا يزال مستمراً لحقّ البقاء في الأرض.


كان لا بدّ لنا من هذه المقدمة لنقول بأن المفاهيم العظمى في شعور أي جماعة هي مفاهيم لا تأخذ مدلولاتها إلا من معجم الهُوية. وليكون للجماعة هوية فلا بدّ من مؤهّلات تمكّنها من العمل على بناء الوعي بسؤال من نحن، ومن ثمّ كيف تجيب عليه. هنا تتبلور تلك المفاهيم بشكلٍ أكثر جلاءً وتنضبط بشكل تدريجي في مسار تشكيل هوية الجماعة. مفهوم البطولة مثلاً، هو من المفاهيم التي ترتبط أنطولوجياً مع أي هوية تريد الحفاظ على بقائها. كلّ الشعوب أنتجت في لحظة ما من تاريخها البطل النموذجي، بطلها المعيار، وأصبحت تشرعن كل وضع قائم وقيادته بتقرّبها من ممارسة تلك البطولة الأسطورية. في فلسطين بات الأمرُ معكوساً. لا ميتافيزيقيا للبطولة هناك إنّما هي بذاتها تجسيدٌ حيّ لتصوّرها الذهني بأشجع ظهوره. في فلسطين يكمن فرقٌ جوهريٌّ في تعريف البطولة. فالبطولة لم تعد تحتاجُ إلى بطلٍ معياري واحد، إنّها تحتاج إلى مجموعة أبطالٍ والفرق هائل. علينا أن ندرك أنّه لم تكن أبداً قضايا الشعوب قضايا فردية. سنصفّق للبطل هنا لأنّه - كحال الشاعر العربي القديم- لسانُ جماعته وصوتُها واختزالُها اختزالاً بنّاءً.
يطلُّ علينا باستمرار لا نعرف شكلَه ولا ملامحه. لا يعرفُ الكثيرون منّا ما اسمه حتّى. نتسمّى بلقبه ونرفع له ما تيسّر لنا من نظرته الشهيرة، صوراً نتباهى بها ونفخر. إنّنا بالكاد نعرف من هو حقّاً ولكنّنا نعرفه من صوته ومن عينيه، من احترافه في تزيّنه باللثام ومن تفاؤل خطابه في النصر. نعرفه من بذلته المستعدّة دوماً للميدان، من سبّابته التي تُرفع لتقول لا وتهدّد والتي تعرف كيف تهوي فوق زناد البندقية. يكاد يكون كالبطل الأسطوري الذي لا ملامح تعرّفه ولا هيئة تُجسّده، ولكنّه رغم ذلك هو البطولة التي تُلمس باليدين وتُرى بالأعين والأهم أنّه من يخشى عينيه وصوته حينما يطلُّ جميعُ الذين اصطفّوا له من الأعداء.
هو أبو عبيدة الملثّم. حقّاً هل يعنيك اسمُه وشكلُه؟ لهذا الأمر تفسيرٌ واضحٌ في فلسطين. لأنّك كيف ستختزلُ كلّ ملامح الأبطال في فلسطين في ملامح واحدة؟ أليس الشهيد البطل عمر أبو ليلى ذلك الشاب الصغير الذي لم يتجاوز العشرين من عمره هو نفسُه عزّ الدين القسّام؟ أليس الشهيد المثقف باسل الأعرج هو نفسُه غسان كنفاني؟ أليس إبراهيم النابلسي هو نفسُه غسّان أبو جمل؟ أليسوا جميعهم واحداً ولكنّهم يُعرفون من خلال بعضهم البعض؟ كيف يمكن اختزالهم؟ الجواب إذن باللثام. هكذا هو أبو عبيدة، صوتُه من صدى أصواتهم ولا يرى إلّا من أعينهم. ولكنّه لا يُعرف، فيُعرفون كلّهم إلا حينما يتلثّم بالكوفية. والكوفية تشبه المفاهيم المؤسّسة للهوية ولكن من الجانب المادّي لتحديد الهوية. ولذلك فُرِّغت الكوفية في فلسطين من كونها وشاحاً لتصبح من ثم لثاماً ممتلئاً بتعبيرات البطولة ورمزاً ثقافياً لمفهوم ذهنيّ أساسي. المسألة كذلك، لو مرّ أبو عبيدة من جانبك بشحمه ولحمه وبلا لثام هل ستشير إليه كبطل وتهلّل وتفخر؟ هل ستعرفه؟ في حين لو مرّ ملثّماً ستشعرُ، من دون أن تدري كيف ولماذا أنّ به شيئاً من أبي عبيدة. وإن لم يكن هو، فإنّه حتماً شبيهُه في الجوهر. حينها ستتأمّله وتهجسُ في نفسِك: آهٍ لو أنّني مثلُه. لغسان كنفاني تعريف خطير ومثير للبطل، حيث يعرّفه بأنّه ذلك الإنسان الذي حينما تنظر إليه تشعر بنقصك. إنّ الكوفية باعتبارها لثاماً حينما يتمّ ارتدائها اليوم وفق ذلك، فإنّ في ذلك سلوكاً يعبّر عن تبنّيك للعمل المقاوم. نفترض هذا لأنّ الشعوب القادرة ليس فقط على ممارسة البطولة بل على تطويرها كذلك هي شعوب باتت من الوعي بمكان أن تفرّق بطلاً حقيقيّاً يتلثّم بكوفيته عن بطلٍ زائفٍ يضعُ الكوفية وشاحاً فوق رأسه. أليس ذلك جليّاً؟ ألم يحن لنا أن نصطفي من التاريخ حكمته أنّ البطل الذي وضع الكوفية وشاحاً قد قزّم القضية وابتذل ممارسة البطولة بذلك؟
إنّ التعامل مع البطولة أمر مربك عبر التاريخ. فمنذ أن أدرك الإنسان أنّ البطولة عمل شامل يطال المجتمع وما يحتويه، أصبح أكثر دقّةً وحذراً في إطلاق صفة البطل على نفسه وعلى الآخرين. تمرُّ المجتمعات دائماً بأزمات وظروف تؤثّر على صيرورتها بشكلٍ سلبيّ ومعقّد، وعادةً ما تنتجُ هذه الأحداث بعضاً من الذين يعملون على إيجاد الحلول وعلى تغيير وضع المجتمع إلى أفضل. وبالمقابل هناك دوماً فئة لا تطرأ بعد حدثٍ ما إنّما فعاليتها ودورها يكون في أنّها هي الحدث بذاته. في فلسطين نتيجة إضافتها وتطويرها لمفهوم البطولة فقد أصبحت بطولة «رجل الأحداث» الذي يُوجد نتيجة أزمة بغية أن يحلَّها، أمراً متجاوزاً لمصلحة بطولة «صانع الأحداث» أي ذلك الذي بقوة عقله وذكائه وشجاعته وقوّة شخصيته يصنع الحدث ويقوده. في السابع من أكتوبر العام الفائت، تأكّد ذلك في غزّة، لم تكن فقط المقاومة هناك تسيرُ في اتجاهٍ واحد، ولم تكن فقط مدفوعةً لدحر العدو، أي لم تكن بطولة ردّة فعل كما اعتاد الجميع أن يسبغ ذلك على أيّة مقاومة، بل تجلّى فعلُها عبر خلقها للحدث، الحدث الذي كان الفاعل في قدرتها على إعلان مفهومها الجديد للبطولة.
إنّنا حينما نستمع لأبي عبيدة بوصفه كُلّاً واحداً فإنّنا نستمع لخطابين معاً. خطاب رجل الأحداث وخطاب صانع الأحداث. وهما في الجوهر خطابٌ واحدٌ كالوردة حين تعرّفها باللون والعبقِ، وكالبندقية حينما تعرّفها بالطلقة والاتجاه. نستمع إلى وصية شهيد أنجز عمله ولم يغب بل نُسِجَ مع خيوط اللثام. إنّ أبا عبيدة يشبه بذلك الشاعر العربي القديم الذي حينما يثبت فصاحته الشعرية مبكّراً تُقام له الأفراح ويُزفُّ ويُعلَن بأنّه «الناطق الرسمي بلسان جماعته». وقد تراه حينما تُثار الحميّة فارساً مقداماً يقتحم ومن ثمّ يعود يؤرّخ لجماعته ويعبّر عنها وعن تطلعاتها وتجاربها في قصائده. القصيدة تصبح هنا خطاباً، له ما يبرّره وعنده ما يقوله والشاعر هو رجل الأحداث وأيضاً صانع الحدث. من هذه الزاوية ننظر لأبي عبيدة حينما يطلّ، هو الخطيب الذي يقول ما نراه واجب القول، ينطق برغباتنا وتطلّعاتنا ويبشّرنا بالنصر ويفصح لنا عن جوعنا لمعرفة ما تفعله المقاومة في الميدان كلّ يوم. وهو المقاتل الذي يخلق ما تشاء إرادتُه وبندقيّته.
في تأريخه لثورة 1936 يقول غسان كنفاني ما معناه أنّ الكتابة حول الموضوع الوطني أو حول الثورة هي بالضرورة كتابة تتضمّن الحديث عن الصراع لأنّ الفعل الوطني والشعبي يتّجه عادةً صوب الحرية حتّى لو لم يصبها في الحال، وبالمقابل فإنّ فعل الكتابة النخبوي يتّجه نحو الجائزة سواء كانت بحثاً أو سمعةً أو ارتزاقاً.
ولكن الأمر هنا يكمن ليس فيما كتبت عن القضية وتفصيلاتها إنّما في الكيفية التي تكتب بها. فكتابة حدث البطولة بمقاربة نموذج المحو، أي ما على البطل فعله من واجب أن يمحوَ ذاته في سبيل قضيته أمر مختلف عن مقاربة البطولة بضرورة إثبات نفسها. هي هنا بالتحديد عملية تنظيم ثوري له منهجية عمل يؤسس بصيرورته لأرضية يستطيع من خلالها كلّ إنسان أن يثبت أنّه قادر على المقاومة من موقعه ويضع نفسه في صفوف الأبطال. ضمن هذه الرؤية يكون الكلام عن فعل التراكم كلاماً سويّاً. إنّ كلام كنفاني عن أنّ الخطاب الشعبي الثوري الذي ينشد الحرية والتي قد لا ينالها من نضالٍ واحد يتضمّن الحديث عن ما عناه ماركس ببعض أفكاره من أنّ الشعور بالذنب هو شعورٌ ثوريّ. إذ في اللحظة التي ترضى بها فشلك في تحقيق ما تصبو إليه فأنتَ -مهما جمّلتَ سلوكك هذا- قدِ استسلمتَ وفقدتَ ثوريتك. حقّاً عندما ترى في عجز القطرة الواحدة عن هدم السور فشلاً دائماً فبأيّ طوفان تحلم؟
لقد نجحت المقاومة، ذلك العام، في امتحان البطولة كما يليق بها. طوفان الأقصى هو تراكم حقيقيّ للقدرة على المواجهة وهو تكثيفٌ لمفهوم البطولة. ما قبل العام الماضي كان شعورنا بالذنب شعوراً ثوريّاً نظريّاً يؤمن بأنّ البندقية وحدها من تغسل العار ثمّ فاض شعورنا حتّى طمى الأعداء. ولكنّنا ما بعده صرنا قادرين على أن نعلّم سوانا كيف يمكن أن تكون «المقاومة جدوى مستمرّة» كما يقول بطلٌ آخر يُدعى باسل الأعرج أو سمِّه إذا شئْتَ أبا عبيدة أو بأي اسمٍ قد تحملُه سيّدةٌ صامدةٌ في غزّة. فالأبطالُ كالشعراء همُ القلّة الهائلة.