توقفت أمام مقدمة هذا المقال أكثر من مرة. كلما كتبت عدّة سطور حذفتها بسبب شعور ثقيل بالعجز. ماذا تفعل الكتابة الآمنة، البعيدة من الموت جوعاً أو مرضاً والبعيدة من مناطق القصف، أمام وقوف بطولي للصحافي والمراسل الفلسطيني وائل الدحدوح الحاضر في ساحة المعركة؟ لم أجد صياغة كافية لتفصيل «استثنائية» وائل الدحدوح، لكنني توقفت أمام أحد الحوارات التي أجريت معه في الحرب على غزّة عام 2014 بعد أن أعادت قناة الجزيرة نشرها، وتعثّرت في موقف قد ذكره، لربما يكون الأكثر قدرة على كشف كواليس حياة وائل الدحدوح، كإنسان صحافي في لفظةٍ واحدة. أثناء تغطيته لأحد أيام القصف على قطاع غزّة، تصاعدت أمطار القنابل بشكل كثيف، وبصعوبة بالغة استطاعت عائلة وائل دحدوح الاتصال به أثناء عمله للاطمئنان عليه كونه كان بعيداً من منزله، فأخبروه أن محيط المنزل يتعرّض لقصف عشوائي، وعليه أن يجد عذراً ويعود إليهم حتى يُخرج والدته العجوز وأباه المقعد قبل أن تلتهمهما نيران القصف. لم يستطع وائل الدحدوج وقتها على فعل شيءٍ، وكان ردّه على تلك الحادثة: «موقف يدعوا إلى الانهيار، لكنني للضرورة، تمالكت».حتى لحظة كتابة هذا المقال، ثمّة أحداث كثيرة تحدث خلف المشهد اليومي الذي يحاول وائل الدحدوح أن يغطيه بأمانة وإصرار ومُثابرة. قُتل أكثر من ثلاثة وخمسين صحافياً منذ بداية الحرب على غزة، وأصيب أحد عشر، إضافة إلى ثمانية عشر صحافياً اعتقلتهم إسرائيل لم يُحدد مكانهم حتى الآن.


لا شيء محميّاً في قطاع غزّة منذ السابع من أكتوبر. ويوم وراء يومٍ نقرأ خبراً جديداً عن استهداف مسعفين أو عن مقتل صحافيين، فضلاً عن الاستباحة الكاملة لمجمل حياة المدنيين في قطاع غزة عن طريق قتلهم ومحاصرتهم، إما قتلهم جوعاً أو بسبب المرض جراء قلّة العلاج، إما يكون موتهم سريعاً جراء القصف. في هذه الأحداث، لا يمكن متابعة شيء أكثر ثباتاً من رؤية وائل الدحدوح على الشاشة يتابع تغطية الحرب. يقف ليشاهد انهيار البرج الذي يكمن فيه مقرّ مكتب قناة الجزيرة في قطاع غزّة والذي يعمل وائل مديراً له، يُغطي الحدث مباشرة بحسرة شديدة، ثم يكمل عمله ويغطي حدثاً آخر بعد ساعاتٍ. يفقدُ ولديه وزوجته في قصف متعمّد من إسرائيل، يتحسّر قائلاً «معلششش»، ويُكمل تغطية حدث آخر. يفقد صديقه وزميله في العمل، المصوّر الفلسطيني سامر أبو دقة الذي مات وهو ينزف، ونقرأ في خبر اغتياله أن وائل الدحدوح أصيب بشظايا القصف، ولكننا في اليوم التالي لا نحتاج إلى صوتٍ آخر، لأن صوت المُراسل هو ذاته صوت الضحية وأمثولة وحشية الحرب، هكذا يقف، في اليوم التالي، وائل الدحدوح أمام الكاميرا ويحكي مُلابسات اغتيال أبو دقة.

الأسطورة وعبور الزمن
عُرف سيزيف بالشر والمكر الشديدين في الميثولوجيا الإغريقية، لكن ما حفظ له الأبدية لم يكن الشقاء الكبير في عقابٍ تمثّل بحمله للصخرة حتى أعلى الجبل من ثم سقوطها إلى القعر، وحملها إلى الأعلى من جديد. يظلُ سيزيف حاضراً وقابلاً للإسقاط على أي زمن، لأنّه تلقّف حكمة القتلة في خداع الموت. حينما احتال على ثاناتوس- إله الموت- وطلب منه أن يجرب الأصفاد والأقفال ثم كبّله بهم ومنع الناس من أن تموت. استحال عقاب سيزيف إلى أمثولة للشقاء، لكنّه ظل موجوداً، ليس لخلوده فقط، وإنما لمنعه حضور الموت على الناس.
هناك معالجات حديثة وعديدة تناولت أسطورة سيزيف، أحدها نظرة المفكر الجزائري ألبير كامو إذ رأى أنّ أسطورة سيزيف لا تعكس فقط مأساة الإنسان أمام عبثية الحياة بقدر ما تصوّر قدرته على الكفاح. فقد كان لسيزيف خياراً في أن يضع حداً لحياته ويُنهي هذا العقاب، لكن بقاءه يلزمنا، بشكلٍ ما، أن نراه من جهة الشجاعة وتحدّي القدر، والمضيّ قدماً متحمّلين المسؤولية. لم يحتج وائل الدحدوح إلى التحايل على الموت المنتشر في قطاع غزّة لينتصر عليه. لم يكبّله، ولم يُراوغه بأي طريقة، لأنه حقق بطولته الشخصية عبر التحديق في وجه الموت كل يوم من دون وضع أي استثناءات لزوجة أو ولد أو صديق، حتى ولد عند الجمهور المتابع له خصوصية مع هذا الصوت. ظهر ذلك حينما انتشر خبر إصابة وائل الدحدوح مُنذ أيام، انتظر الجميع عودته، ليس عودة الصحافي أو المُراسل، بل عودة العين التي يُمكنها أن تُكمِل التحديق في ساحة الموت، والصوت الذي يخبرنا، رمزياً، بأن هناك بطولات مرئية في غزة، غير البطولات التي تظهر وتختفي تحت الأرض.
البطولة المثالية التي لا تحتاج إلى تحايل جعلت حضور وائل الدحدوح متأرجحاً بين قطبية الخير والشر. لا تتطلب سفراً طويلاً وحركة حتى تحظى بقالب السردية الحديثة حول تحقق البطولة. تستعاد الآن رواية «دون كيخوتة» باعتبارها العباءة التي خرج منها الأدب الحديث. جسّدت شخصية هذه الرواية خيالات وتوهّمات وهوساً بأخلاق بائدة، لكنّ مكمن تراجيديتها، أو «جديّتها» نابع من أصلها الساخر، وتجلّى في أن «دون كيخوتة» الأهوج الساذج مُحارب طواحين الهواء باعتبارها شياطين ذات أذرع، مات بعيداً من الوطن، ولذلك لم يستطع أن يموت راضياً عن بطولته الوهمية، ومات وفي حلقه مرارة البُعد عن الوجود الأول.
تبدأ الحكايات من فقدان الشيء أو البحث عن شيء. والأصل في ذلك يعود إلى إلياذة هوميروس التي سردت ملحمة عودة أوديسيوس إلى مدينته إيثاكا بعد انتهائه من حرب طروادة التي استمرت عشر سنوات. جدوى البطولة في الرحلة، بما فيها سجنه وقتاله ضد العمالقة ونزوله إلى العالم السفلي ومقابلة رفاقه الموتى، تحقق كل ذلك عبر العودة إلى الوطن. الرحلة ذاتها بدأت لأجل العودة إلى الأرض بروحٍ جديدة، تجعل من الأرض ذاتها أرضاً جديدة.
نُشاهد وائل الدحدوح يومياً أمام الشاشة، مُتمسكاً بأن يتحقق المعنى في الوجود عبر الحركة في إطار احتدام الحرب. أن يقف في وسطها ويحكي متنازلاً عن كل مُسببات البطولة من حركة وصراع يتأرجحان بين داخلٍ وخارج. لا حاجة إلى تفضيل رغبة في البقاء أو تفضيل الحياة على الموت، والتغطية من مناطق أكثر أماناً، هذه الخطوات يمكنها أن تحافظ على شكلية البطولة أيضاً، لكن لا حاجة لها، لأن الطريق الأخرى تبدأ من «العادية» القائمة على إثارة الحياة الشخصية بما فيها من فقدان شامل.
ربما ترددتُ قليلاً في مقاربة وائل الدحدوح مع استعادة مكوّنات الأسطورة التاريخية. فكم من حربٍ مضت ظهر بها أصوات صحافية استثنائية؟ الكثير على الأرجح، لكن كم من حرب مضت وقد ظهر فيها صوت مثل وائل الدحدوح؟ هذا السؤال يدفعني إلى التفكير حول العلاقة الشرطية بين البطولة والزمن، إذ تحتاج البطولة إلى هزيمة كبرى، يُحوّلها الزمن عبر سنوات طويلة إلى صور أخرى، متجاوزة حكم المنتصر، لأن البطل الحقيقي تكمُن بطولته في الانتصار على هذا الحكم. لم يحتج وائل الدحدوح إلى زمن طويل، ولم يتراجع أمام كسر صموده ومهنيته الشديدة. تحوّل إلى مركزٍ مُتعدد يحوم في قلب مناطق الخطر، يقترب من الموت لدرجة أن يزهد الموت فيه، ويتخلى عن كل مسميات البطولة، حتى تبحث هي بدورها عنه.

من دون وسيط
وضع مؤسس البنيوية في اللسانيات، فيرديناند دي سوسور، بُعداً ركيزاً في اللغة وعلاقتها بالفكر. حدّد سوسور اللفظة في قسمين: الأولى هي الدال وتمثل الكلمة، والثانية هي المدلول تمثل الصورة الذهنية عن هذه الكلمة، وعبر هذه الثنائية تتشكّل رمزية الكلام المُركّب. والرابط بين الدال والمدلول، والعلاقة بينهما ناتجة من تعارف وتداوُل تاريخي يتجاوز الفرد. يُمكن لأي شيء أن يكون رمزاً بشرط أن يحمل رسالة ما ضمن ثقافة مُعيّنة تنتج معنى منوطاً بتصوراتنا الذهنية عنه كجماعة.
يخلقُ وائل الدحدوح انزياحاً دلالياً في بنية ما يقدمه عن الحرب، باعتباره دالاً (مُراسلاً) لا يُغطي حرباً على أرضه ويُعطي معلومات عنها، بل هو الحرب ذاتها، بما تشمله من نتائج. فالأموات موتاه، وهيئة الناس تحت وطأة الحرب تشمل عائلته، وخسارات الحرب تطاله بالجملة. في حالة الدحدوح، لسنا في حاجة إلى مدلول لأن الدال يكفي لخلق معرفة عميقة بالحرب وأحداثها لا حاجة لبحثٍ عن معنى، للحرب معانيها بعيداً من انتهائها بنصرٍ أو هزيمة، لأنها تعرف مما تخلقه من حطامٍ وموت وتهديدٍ، من الأنقاض والجروح، الحروق والمآسي والفقدان، من خلاء مُقبض بفعِل الهروب بحثاً عن احتمالات موتٍ أقل، ووائل الدحدوح بينما يُغطي خبراً، فإنه يتجرّع هذه المُفردات واحدة وراء الأخرى، إذ يخلق وجوداً مُتعدداً، يشملُ الحرب وأمثولتها وخبرها الناطق.
يكسرُ وائل الدحدوح حدوده عبر تغطياته مُتجاوزاً نفسه في دور الوسيط أو الرمز. ثمّة مساحة بين العمل الصحافي في الحرب، وبين الحرب ذاتها، حتى وإن كانت الحرب معنيّة بأرضك وناسك. حينما ننظر إلى ثنائية ما هو داخل الحرب وخارجها، نجد أنّ المراسل مُنتمي إلى الخارج أكثر، هو صوت مدفوع إلى الخارج بالأساس، غرضه التغطية وإيضاح الحقيقة، لكنّه محميّ بالمُسمّى الوظيفي، والمُفترض أنّه محميّ أيضاً بالقوانين الدولية. في حالة وائل، يحضر فيه أكثر من رمز في وقتٍ واحد، هو الخبر، بحُزنه الكبير، وهو صوته أيضاً. حتى تعبير «الخبر» يمكن التوقف عنده، ومدّه إلى خبر شخصي يمثّل حكاية تعني المُتحدث بها على أكثر من وجه، بداية من العلاقة بالشهيد، مروراً بالعلاقة مع الأرض، وانتهاءً بالعلاقة بين الصحافي المُراسل وبين حقّه المُنتهك في التغطية الآمنة.

شخصية العام
تجاوز وائل الدحدوح في أيام الحرب كونه مراسلاً ليس على مستوى وظيفيّ فقط بل في أذهان متابعي الأحداث في غزّة. فالخوف عليه خوفان، أولاً لقدرته على كسر تصوراتنا الذهنية عن الحدث في فلسطين، فطالما يظهرُ وائل الدحدوح على الشاشة هناك بطولة قائمة بحد ذاتها، تتمثّل في الالتزام بالعمل ومهنية سبّاقة والالتزام الأخلاقي والسياسي. وثانياً لأن دلالة -من دلالات- وائل الدحدوح تمثّل لنا قيمة حياتية تبدأ من الحرب، كنموذج، وتعكس لنا دواخلها غير المرئية، وتمثّل من الجهة الفلسطينية صُورة لصمودٍ غير مسبوق.
لا تُطالعنا حياة وائل الدحدوح إلا على مزيد من البطولة الحقيقية والعابرة من الخيال الأدبي والأسطوري إلى الحقيقة حيثُ لا حقيقة لبطولة أكثر من واحدة تظهرُ في وقت الحرب. عاش وائل مزارعاً حتى خروجه من الثانوية. حصل على منحة لدراسة الطب في العراق، وقبل سفره بأيام، اعتُقل بسبب مشاركته في الانتفاضة الأولى. حُكم عليه بالسجن لمدة سبع سنوات، هي ذاتها عدد سنوات حُلمه في دراسة الطب آنذاك، وحينما خرج، لم يجد غير الصحافة بديلاً ووظيفة لتحويل شُعوره بالمسؤولية تجاه قضيّته إلى نشاط فاعلٍ ومقاوم.
لا يرتبط وائل الدحدوح فقط بالحرب الحالية على غزّة. أصل الخسارة في عائلته تعود إلى عشرين شهيداً من الأقارب. لكن ذروة الحضور والارتباط الكُليّ، بين حدث الحرب على غزّة ووائل الدحدوح، تخبطُ في وجوهنا الآن عبر أخبار كثيرة، هو من يذكرها، كوسيط وحدث، خبر وضحية، وبطل استثنائي في المقام الأول.