في عام 2023 حصد هاشتاغ محمد رمضان على تيك توك ما يقرب من تسعة مليارات مشاهدة، ليحقق بذلك رقماً قياسياً، لم يحُذ عليه أحداً من قبل في الساحة الفنيّة العربية. على الرغم من ضخامة هذا الرقم، إلا أنني أعتقد أنه رقم طبيعي قياساً على حالة رمضان. فالأخير يمتلك تلك القدرة على أن يكون محطّ أنظار، وأن يكون نجماً رفيعاً، ويمكننا القول أن محمد رمضان أصبح كالنبوءة المتحققة. فمطرب البوب المصري لم يخذل جماهيره يوماً. كلما انتظروا منه موقفاً أخرقاً، أو سلوكاً مفرطاً في غرابته زوّدهم بأكثر مما طمحوا إليه، حتى بات رمضان ترند، يصلح أن يكون تقويماً يساعد في الجردة السنوية للعام الفائت، أو قد يكون بمثابة عدّاد لإحصاء سرعة الأيام التي مرت في ذلك العام، والذي كانت أحواله رهيبة.

ربما لم يعُد الكثيرون يتعاملون مع محمد رمضان بجدية لكنهم ما زالوا مقيدين بحضوره، غير قادرين على الفكاك من هيبته، مهما كانت هذه الهيبة. ما زالوا يحيلونه إلى الثقافة الشعبية، إذ دائماً ما يكون حديثهم في الشهر الرمضاني عن مسلسلٍ قدمه، أو عن لقاءات صحافية وتلفزيونية أجراها، أو عن أحاديث صرّح بها شكّلت لهم مواد للـ«ميم» جاهزة للتركيب، فيحضر محمد رمضان «الميم»، كشخصية مثيرة للضحك تستطيع التعليق على موقف يوميّ حدث في العمل أو أثناء الدراسة.
نعيش في زمكان «رمضانيّ» بامتياز. محمد رمضان حاضرٌ في السينما، والتلفاز، وبرامج التوك شو، ومنصة سبوتيفاي وعلى الإنستغرام. وبقدرة حربائيّة يمتاز بها، تجد له في كل منصةٍ صورة تختلف عن الأخرى ومغايرة عنها. خذ هذا المثل: في مطلع عام 2023 قدّم محمد رمضان دوراً تلفزيونياً عن الذكر مُكتمل الذكورة، المميز في كل شيء حتى في تقليب كوب الشاي، كان يدعى جعفر العمدة، وهو صورة عن «الفحل المزواج»، تحت أقدامه تسقط الممثلة إيمان العاصي، الرقيقة الناعمة، وهي نموذج الأنثى الـ«délicate»، تبكي وتتوسل رضاه. جعفر العمدة يضرب أنصاف الرجال الذين يدعون «دودي» -أصحاب البدل وسكان الكومباوند- من دون أن يتبعثر جلبابه المكوي والمرتب، ويصلبهم على باب حارته، بحي السيدة زينب، في مشهد قروسطي يُذكّر بالأبطال وفتوات العرمرم. أما نظراؤه وأعداؤه فإنه يدهسهم بأقدامه، كمثال للإخضاع والسيطرة والإمعان في الإذلال. وحين يظهر جعفر العمدة خائباً أو مكسور الفؤاد، فإنه ينكسر كالرجال، أمام أمه فقط، ويطيع أقرباءه وأخاه الذي أنهكته عاطفته تجاهه، ويغدق فقراء الحيّ بأمواله. هي سيرة هلالية مُطوّلة، تتشكل من ثلاثين حلقة، يبحث فيها عن ابنه المخطوف، الذي يرافقه طوال الرحلة من دون يدري أنّ الذي بجانبه هو ابنه، ودعونا لا ننكر أننا جميعنا انتظرنا تتالي الحلقات طوال الثلاثين يوماً من شهر رمضان، متشوّقين لمعرفة ماذا سيحدث في الحلقة المقبلة.
في الأدوار الإعلامية والفنية الذي يشغلها، يضخّ محمد رمضان مجموعة من القيم حتى تتقمّصها الجماهير المصرية المعدومة التي تعيش في ديمومة هزائم سياسية واجتماعية واقتصادية. وبعد تضخيمه هالة الشخصية العاشقة للجدعنة، والفحولة الجنسية، والانتقام، والثراء، والسلطة، والسيطرة على المصير وكل ما يفتقده المشاهد ويتمناه، فإذ به يطلّ بصورته الأخرى على إنستغرام، صورة نرسيس الذي عشق صورته حتى لم يعد يرى غيرها. وبينما كانت السماء - وما تزال- تمطر حرائق في غزة، شارك محمد رمضان على إنستغرام، مقطعاً طافحاً بالذكورية، إذ ظهر محاطاً بسيّدتين وكأنهما خادمتان له، إحداهن تدلّك ظهره فيما الأخرى تطلي أظافر قدميّه. يقدّم محمد رمضان في صفحته الخاصة على إنستغرام، صورة مناقضة تماماً لجعفر العمدة. ذلك الفيديو جلب عليه الكوارث، وأجبره على حذف العديد من الفيديوهات المثيرة للجلبة، مثل الفيديو الذي ظهر فيه يناكف جيش «بلده»، الجيش نفسه الذي سبق أن قدم له يوماً ما، صورة عن الجندي الغارق بالبطولة، والفداء، والتضحية ليسخر من نفس هذا الجيش، قائلاً إنه يشتري أسلحة ويتركها تصدأ. إلى أن وصل به العبث الكامل، وبلغت السذاجة الخرقاء الذي يمتاز بها أقصى حدودها، فقرر في أحد الفيديوهات، الإعلان عن شخصية مسلسله القادم: أبو عبيدة.
في هذا الخط الزمني الممتد من جعفر العمدة إلى أبو عبيدة، لم يغب رمضان للحظة واحدة. هو صاخبٌ، ومزعج، ونافر مثل أزياءه الـ«ميتغالية» (Met Gala). لكن محمد رمضان بارتدائه قميصاً مُزيناً خلفيته بعبارة «عين العناية الإلهية» قادرٌ على صناعة حدثٍ، وهو عندما ظهر في ذلك القميص، ترك أصحاب نظرية المؤامرة ينشغلون بماسونية محمد رمضان، وما إن هدأ الجميع حتى خرج بفيديو كليب يرتدي فيه روباً نسائياً، ليتحدثوا عن ثريٍّ حديث العهد أفسدته الأموال. لا يتوقف محمد رمضان، الذي حصد 9 مليارات مشاهدة في عام 2023 عند هذا الحدّ. فهو يقدّم نفسه على أنه صاحب رأي سياسي وجيوإستراتيجي، فتراه يدخل في صراع القوميات، ويتحدث عن «مصريته» الأبيّة، و«عروبته» التي يرفع شعارها على صفحته الشخصية، يتكلم أيضاً عن «أفريقيته» في حفلاته الذي يقيمها في أفريقيا. ويبدو أنّ لمحمد رمضان أيضاً مستوى رفيعاً في التمثيل السياسي وليس فقط التمثيل الفنّي، فقد التقى رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في لقاء رسميّ، وشربا القهوة وتبادلا النكات في حدثٍ نجم على إثره الكثير من الـ«ميمز»، والحديث العابث أقله.
أنا أتفهم رمضان تماماً. وربما أعذره على حماقاته المفرطة وسعيه لكي يكون ترند، ومن أخادع؟ ربما أحبه، وأنا بالفعل لا أشاهد في شهر رمضان إلا مسلسلاته. بالنسبة إلي، إنّ محمد رمضان نموذج عن صعود الهامشيّ والشعبيّ بكل ما يمثّله من قيمٍ وخصال قد تزعج الكثيرين. لو ظل محمد رمضان يحاول أن يكون جزءاً من شلّة أبطال الشاشة التقليديين، والذين يصح القول فيهم أنهم أبطال مؤدبون، لربما سيكون مصيره ممثلاً من الدرجة الثانية والثالثة، لكن محمد رمضان كسر الإطار، وهرب من برواز البطل المؤدب، ليكون بطل «السرسجية»، وهم أهل الشارع وسكانه.
لحظة صعود محمد رمضان إذاً، كانت بمثابة انتحار محمد رمضان العادي والخجول. هي لحظة انبثاق نجاحه الذي اشترط عليه الظهور بوجه آخر. في عام 2012، وفي ذروة الانفلات الأمني في البلاد على أعقاب ثورة يناير والسنوات التي تبعتها، كان الإعلام المصري يبحث بالفعل عن كبش فداء يحمل ذنب خطايا السلطة، ويتحمل مسؤولية خلقها مجتمعاً ممسوخاً، نتيجة إفقارها المتعمّد والتجهيل الذي مارسته ونشرها المخدرات لخدمة التغييب والأمية السياسية. كان محمد رمضان إذاً كبش الفداء هذا، وقد حمل تلك الخطايا عبر أفلامٍ قدمها عن «السرسجية».
تغافل الإعلام عن أن محمد رمضان استمد شخصياته من الواقع بحدّ ذاته، لكنهم عمدوا إلى ترويج فكرة زائفة مفادها أن الشخصيات التي مثلها رمضان خلقت- في الواقع- على صورة أفلامه. تعاملوا مع رمضان على أنه «عدو الشعب» بينما كان في شكلٍ من الأشكال «بطلهم». وفي كل مناسبة سواء في تكريمٍ في أحد المهرجانات أو في لقاءات تلفزيونية، يعامل محمد رمضان بالرغم من نجوميّته وشعبيته، باستعلاء كبير من ممثلي الجيل الذين ينزعجون منه، وحينما اتجه هؤلاء النجوم «المؤدبين» إلى تقديم شخصيات «السرسجية»، في فيلم «أولاد رزق» مثلاً، لم يشنّ عليهم أحد هجوماً كالهجومات التي يتعرض لها محمد رمضان. لم يقل أحد أن التحرش والبلطجة وتصفيفات الشعر الغريبة وكل المظاهر الرائجة في الشوارع هم سببه وأنهم من يتحمل مسؤوليته.
لقد تعرض محمد رمضان في بدايته، ولا يزال، لحملة اغتيال لشخصه، وقد خلقت هذه الحملة حالة استقطاب جنونية تجمّعت حوله؛ جماهير تحمله على أكتافها حين ينزل إلى الشارع، تقابلها جماهير أخرى تعتبره سبباً لرواج الأخلاق المتردّية. حالة الاستقطاب الحادة تلك، أسهمت في تعزيز الحالة العجيبة لرمضان المهووس بإثبات ذاته والحفاظ على مكانة النجم الـ«رقم واحد». حاول رمضان في مرات قليلة، بناءً على رغبة الإعلام والشعب الذي يراه عدواً، أن يقدم أدواراً خارج خلطته السحرية كدور الذكر «الماتشو»، لكنه في كل مرة يفشل. تكمن المفارقة الساخرة أنه ما إن يعود لخلطته السحرية، ينجح نجاحاً مدوياً. إنّ محمد رمضان تمثال لـ«بجماليون» ذو إرادة، والشعب هو «بجماليون» الذي كره «السرسجة» كثيراً، ولكنه صنع تمثالاً على صورتها، فعشق الصورة وأدمن النظر إليها.