العلاقةُ بين الصين ولبنان، علاقة إنسانيُّةٌ، تتجاوزُ المقاييس التي تقوم عليها العلاقات بين الدول اليوم؛ فلبنان إحدى أصغر الدول حَجْمًا وأقلُّها سكَّانًا، فيما الصين من أكبر الدولِ مساحة وسكَّانًا؛ يتباعدان في الحَجْمِ وعددِ السُّكَّانِ، ويتقاربان في الكثافة السُّكَّانيَّة؛ يتباعدان في الأيديولوجيات ويتقاربان في الطموحِ والإنسانيات. علاقتهما لا تقومٌ على المصالح المتبادلة وحَسْبُ، بل على الاحترام المتبادل والثقة المتبادلة؛ والشعبان، الصيني واللبناني، يتمتعان بتاريخ عظيم مشترك، فكما اشتهرت الصينُ بالفلسفة والطب وكانت أوَّل من اكتشف الحبر، اشتهر لبنان بأن عاصمته كانت أمَّ الشرائع وأن إحدى مُدُنِه، صيدا، كانت سيِّدة البحرٍ المتوسِّطِ، وجبيل (بيبلوس) أول من اكتشف الحروف الهجائيَّةِ وكانت أمَّ الكتاب لا ينازعها في ذلك منازع.
يتقارب الشعبان الصديقان في المنافع المتوازنة، على الرُّغمِ من كونهما غير متوازيين طاقة وقدرات اقتصادية ومالية، وهذا برهان آخر على النزاهةِ وعمقِ القيمِ التي تقومُ عليها هذه الصداقة.
ويتقارب لبنانُ والصين في أنَّ الصين عبَّدت طريق الحرير كظاهرة من أفضل الظواهر البشرية، وذلك بما نتج عنها من تلاقٍ بين الدولِ وتفاعل بين الشعوب على غيرِ صعيدٍ، أبرزها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وكما كانت الصين مدى حيويًّا تجاريًّا وماليًّا، كان لبنان رئةَ الشرقين الأدنى والأوسط، وبخاصَّةٍ، مُتنفَّسَ البلاد العربيَّة على اختلاف مساراتها وأنظمتها: التقدُّميَّة والمحافظةِ، وذلك من خلالِ صحافتِهِ الحرَّةِ، الفريدةِ الأبعادِ والمسالك. هكذا ازدهرت التجارة في الشرق الأوسط والشرق الأقصى، وتبادل الناسُ معَ السِّلعِ والخدماتِ الأخبارَ والأفكارَ والآراءَ، وأثروا على مختلفِ الأصعدة ونشيرُ إلى أنَّ لبنان كان في طليعةِ من سلك هذا الطريق مستفيدًا من إبداعات الشعوب التي سلكتهُ وتلك التي كان لها الحظَّ في أن يَمُرَّ بها.


وأهميَّة طريق الحرير القديمة والحديثة، المتمثِّلة بمدِّ الصين يدِ التعاون والصداقة إلى معظَمِ دولٍ العالم، ليست في كونها تؤدي إلى مكانٍ بعينهِ، وتمرُّ بدولٍ بعينها، بل أيضًا لأنها كالحرير جذَّابٌ ومغرٍ، يسلكها الناس لجمالها ولما ينتجُ عن سلوكها من تطوُّرٍ ذهنيٍّ وعاطفيٍّ يقرِّبُ الشعوبَ بعضها من بعض ويُسهم في غناها الثقافي والحضاري عن طريق الحوار الذي يعزِّزُ الثقة بين الناس وبين الشعوب ويصوِّب السلوك البشري العامَ الذي يؤدي وحده إلى واحة السلام الكونيِّ الذي ينشده العالم أجمع.
إنَّ مؤسستنا، المعهد الوطني العالي للموسيقى ("الكونسرفاتوار) حصدت حصَّةً وافرة من هذا التعاون بين لبنان والصين هو، إضافةً إلى الرِّفقة الهنيَّةِ، البناءُ العصريُّ المُمْتاز الذي التزمت الصديقة الكبيرة الصين ببنائه للكونسرفاتوار، وهو يضمُّ قاعتين رحبتين للحفلات مخصَّصتين أساسًا لحفلات الأوركسترا الفيلهارمونية والأوركسترا الشرق عربيَّة، وقاعات للتدريس المنهجي المتبع وكل ما تحتاج إليه هذه القاعات من توابع، وذلك تبعًا لأفضل المعايير الدولية الحديثة.
إنَّ هذين البنائين يتوجان تعاوننا الذي امتد عبر التاريخ، وتَجَدَّدَ بإرادة لبنانيَّةٍ واعية مدركةٍ أبعاد التعاون المختلفة بيننا وبين الصين والتي سيكملها تعاون مخلص بين معاهدنا الموسيقية والمعاهد الصينية، هذا إلى تبادل الخبرات عبر زيارات بين كبار أساتذتنا في معظم حقول التربية والتعليم وبخاصَّة في الحقل الموسيقيِّ الرحب.
إنني أغتنم هذه المناسبة السعيدة لأجدد شكري وتقديري العالي للحكومة الصينيَّةِ وللشعب الصينيِّ العظيم لهذه البادرة الشهمة وللحفاوة البالغة التي استقبلونا بها أثناء زيارتنا للصين الصديقة الغالية.
وبعد، شكرًا لجريدة «الأخبار» لإصدارها هذا العدَد الوثائِقِيّ الممتاز. عاشت الصِّحَافة اللبنانيَّة حرَّةً متعافية، وعاشت الصداقة بين الأمم، وبخاصَّة، بين الصين ولبنان.
* عضو مجلس إدارة الكونسرفاتوار اللبناني