مع الإجماع العلمي على أن القضاء على انتشار فيروس كورونا المستجد صار ضرباً من المستحيل وأنه سينتقل تدريجياً إلى حالة الفيروسات المتوطنة أو الموسمية، تحوّلت السياسات الصحية حول العالم إلى تفادي ضرر الإصابة المحتّمة بالفيروس عبر تلقي اللقاحات والأدوية الفعالة قيد التطوير. وعليه، فإن أحد أهم الأسئلة في هذه المرحلة من الجائحة هو التالي: كم يبلغ الحد الأدنى من الوفيات الذي يصير من المقبول عنده التخلي عن الإجراءات الاستثنائية للحدّ من خطر كورونا، بدءاً بالكمامات وصولاً إلى فرض اللقاحات والإقفال الشامل؟ وهل يتساوى هذا الحد بين الفئات العمرية التي يرتبط خطر الإصابة بالفيروس بها ارتباطاً وثيقاً؟
منذ أسبوعين تقريباً، وافقت الولايات المتحدة على منح لقاح «فايزر/ بيونتك» ترخيصاً للاستعمال الطارئ لصغار السن من عمر 5 إلى 11 عاماً، وهي خطوة مثيرة للجدل لثلاثة اعتبارات: أوّلها، يتعلّق بعدم كون كورونا حالة صحية طارئة لهذه الفئة العمرية. والثاني، عدم توفّر المعطيات الكافية حول نسبة حدوث العوارض الجانبية للقاحات كورونا عند صغار السن. أمّا الثالث، كون اللقاحات متوفرة وذات فعالية لدى الفئات الأكثر عرضة لخطر كورونا، ما ينفي الحاجة لتحصين الأولاد بهدف حماية البالغين وكبار السن. من هذا القبيل، لم توصِ اللجنة المشتركة المعنية بالتطعيم والتحصين «JCVI» في بريطانيا بتلقيح الأولاد الأصحاء من عمر 12 إلى 15 عاماً، بخلاف من بلغوا 16-17 عاماً والذين يتجهون إلى الجامعات أو سوق العمل ويوافقون طَوعاً بأنفسهم على أخذ اللقاح.

لا يبدو أن الاعتبار الأوّل يختلف في لبنان عن سائر الدول، على صعيد مقارنة وفيات كورونا السنوية (حتى 10 آذار 2021) مع أسباب الوفيات للعام 2019 بحسب بيانات منظمة الصحة العالمية. فما بين صغار السن دون 19 عاماً وكبار السن فوق 60 عاماً، يبرز خطر كورونا بوضوح لدى الفئة الثانية لا الأولى (أنظر الرسم البياني المرفق). ولا يرجع ذلك إلى اختلاف في تسجيل حالات الإصابة بين المجموعتين، إذ سُجّلت 51 ألف حالة لصغار السن مقابل 47 ألفاً لكبار السن خلال السنة الأولى. فيروس كورونا إذاً لا يزيد خطورة لمن هم دون 19 عاماً عن سائر الفيروسات والبكتيريا التنفسية الأخرى والتي نذكر منها: السعال الديكي (15 وفاة) والحصبة (12 وفاة) والسل (11 وفاة) بالإضافة إلى 64 حالة وفاة جراء ما يُعرَف بإصابات الجهاز التنفسي السفلي، والتي تشمل عدة مسببات جرثومية أبرزها فيروس الإنفلونزا والفيروس المخلوي التنفسي RSV.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره


ولكن ماذا عمّن لم يُصَب بكورونا بعد من صغار السن، وما يترتب عليه من زيادة 725 حالة وفاة محتملة بالمعدّل الحالي للإماتة (حالة وفاة لكل 3 آلاف إصابة تقريباً)؟ ليس هذا التقدير دقيقاً، إذ صار من المعلوم أن وفيات كورونا في هذه الفئة وغيرها هي بشكل أساسي من ذوي الأوضاع الصحية الخاصة أو الأمراض المزمنة: فمن أصل 27 حالة وفاة بكورونا لمن هم دون 19 عاماً حتى اليوم، سُجِّلَت حالتا وفاة فقط من بين الأصحاء. وليس هناك ما يمنع تقديم اللقاحات للأكثر عرضة لخطر كورونا من هذه الفئة، بل هو محل إجماع المنظمات الصحية كافة. هذا مع التحفّظ الشديد على كون الإصابات الفعلية أعلى من الحالات الموثقة خصوصاً لدى صغار السن والمراهقين، أي أن معدل الإماتة الحالي مبالغٌ فيه، كما أن المناعة الطبيعية بعد الإصابة بكورونا لا تقل قوة واستدامة عن مناعة اللقاحات (راجع «الأخبار» الخميس 27 أيار 2021).

أمّا الاعتبار الثاني بأن تكون مخاطر اللّقاحات (ممثلةً بنسبة حدوث العوارض الجانبية) أكبر من فوائدها (بالحد من الإصابات الخطرة بكورونا)، فيدور بشكل أساسي حول عارض التهاب عضلة القلب الذي يرتبط بلقاحَيْ «فايزر/ بيونتك» و«مودرنا». يبرز هذا العارض النادر لدى المراهقين من 12 إلى 15 عاماً بمعدّل يقرب من حالة لكل 6 آلاف متلقح بجرعة ثانية، ويخف تدريجياً مع تقدّم السن أي بعكس التفاوت العمري جراء خطر كورونا. أما لدى صغار السن دون 11 عاماً، فلا بيانات كافية عن ما إذا كانت نسبة حدوثه ستكون أعلى من ذلك. وبالرغم من كون العارض قصير الأمد، تبيّن لجنة التطعيم البريطانية أن «التشخيص المتوسط إلى طويل الأجل (من أشهر إلى سنوات)، بما في ذلك إمكانية استمرار ضرر الأنسجة الناتجة عن الالتهاب، غير مؤكد حالياً لأن الوقت الكافي للمتابعة لم يتحقق بعد».

في لبنان، لا تنال فئة صغار السن أي اهتمام إضافي على صعيد الموازنة بين الفوائد الضئيلة للّقاحات والمَضارّ المحتملة للعوارض الجانبية، فلا تزال اللجنة التنفيذية للقاح «كوفيد-19» في وزارة الصحة توصي بأولوية تلقيح الطلاب دون استثناء «وذلك لحمايتهم من مضاعفات فيروس كوفيد-19». وما بين 12 و16 عاماً، بلغ عدد الذي تلقوا جرعة واحدة من اللقاح الأميركي إلى الآن 76 ألفاً (54 ألفاً تلقوا جرعتين) من أصل 116 ألف مسجل.

في المقابل، إن الفيروسات التنفسية الأخرى قد تزداد خطورة نتيجة الاستنسابية في مواجهة فيروس كورونا: فقد انخفضت نسبة التلقيح ضد فيروس الحصبة في آذار 2020 (أي خلال الإقفال الأول) بقدر 73% مقارنةً بنفس الفترة من السنة الماضية، بحسب بحث علمي شارك فيه الدكتور عبد الرحمن البزري في شباط الفائت. ومن المعلوم أن هذا الفيروس أسرع انتشاراً وأكثر خطراً من كورونا خصوصاً لمن هم دون الخمسة أعوام، إذ يتراوح معدّل الإماتة لهذه الفئة بين 1.1 و6.4%. وإن كان هذا الخلل يُستدرك بزيادة حملات التلقيح الاعتيادية، فلا ينطبق هذا على الفيروسات التي لا لقاح ناجح ضدها. فعلى سبيل المثال، شهدت المدارس حول العالم عند عودة الطلاب زيادة حادةً في إصابات «RSV» المسبب للرشح في غير أشهر ذروته الموسمية. كما يُتخوّف من عودة عنيفة لانتشار فيروس الإنفلونزا بعد انعدام شبه كلي لتفشيه خلال السنتين الماضيتين حول العالم بما فيها لبنان.

لذلك، لا ينبغي لكورونا أن يمتاز عن سائر المسببات التنفسية بين طلاب المدارس. فإمّا أن يصير كسائر الفيروسات الموسمية – وهو الواقع فعلياً منذ إعادة فتح المدارس في لبنان – بل هو ما تقرّ به ضمناً منظمة الصحة العالمية حين توصي بعدم ارتداء الكمامات لمن هم دون الخمسة أعوام من العمر وبارتدائها تحت شروط معينة لمن هم بين 6 و11 عاماً. وإمّا أن يصير أولوية صحية لتفادي أكبر عدد ممكن من الوفيات، ولا بد عندها من معاملة سائر المسببات التنفسية المهملة سابقاً بنفس الاهتمام. إلا أننا لا ندري ما إذا كانت المدارس اللبنانية وخصوصاً الرسمية مؤهلة لهذا القدر من الالتزام!