فداء عيتانيهل «القاعدة» موجودة في لبنان؟ وهل هي مع فريق الثامن من آذار أم فريق الرابع عشر منه؟ بهذه العبارة يطرح اللبنانيّون موضوع تنظيم دولي يصارع الأميركيّين في كلّ العالم، ويعتقدون بأنّ «القاعدة» كتنظيم ونشاط واختراقات أمنية وخطوط إمداد خلفية ونسق فكري وسياسي وبنية دينية، أن القاعدة هذه بحربها الضروس مع الغرب هي «شأن يحصل للآخرين» و«بلاء» يصيب غيرنا، ولكن نحن منه بعيدون.
إثبات وجود «القاعدة» أصبح، منذ عام 2004، أمراً بيد القضاء اللبناني الذي بدأ في ذلك التاريخ بتوجيه تُهم مماثلة لمجموعة إسماعيل الخطيب، الذي يعدّه العديد من اللبنانيين شهيداً قضى من أجل نصرة العراق، ويعتبرون اتّهامه بمحاولة تفجير السفارة الإيطالية في وسط بيروت حجّة أو ذريعة لضرب هذه المجموعات. ومن الخطيب إلى أكثر من دزينة من الشبكات، بات في أرشيف القضاء اللبناني مخزون يسمح بتكوين صورة عن تنظيم «القاعدة» ونشاطه في لبنان.
«الأخبار» حاولت الدخول إلى عالم هؤلاء، وتابعتهم منذ ما قبل بروز تنظيم «فتح الإسلام». إلا أن المعلومات التي حصلت عليها «الأخبار» تذهب أبعد من ذلك. ثمّة عشرات من الشبكات الصغيرة والمتوسّطة في لبنان. وبعد بحث ميداني بدأ منذ ما قبل نشوء تنظيم «فتح الإسلام»، ومراكمة المعلومات والبحث، ظهرت الخلايا والشبكات وعمليّات الدخول والتدريب في لبنان لمصلحة تنظيم القاعدة مباشرة، أو لمجموعات رديفة وحليفة له. وانطلاقاً من لبنان، انتشر العشرات، بل المئات، من الناشطين في دول العالم الغربي والعراق وبعض دول الجوار، للقيام بمهمّات محدّدة أو بانتظار تنشيط عمليّات وخلايا في الغرب وبعض الدول العربية.
من البقاع، مجدل عنجر ولالا والقرعون وغيرها، إلى مناطق أقصى شمال لبنان، عكار وطرابلس والضنية، وصولاً إلى بيروت بأحيائها المكتظّة من الطريق الجديدة إلى البسطة وغيرهما، وصولاً إلى إقليم الخروب، وليس نهايةً بمخيّم عين الحلوة وبعض قرى العرقوب، يظهر جسم السلفية الجهادية صلباً وواسعاً. تعرّض لنكسة نتيجة «خطأ» معركة نهر البارد، ويتوجّس هذا الجسم خشية من مطاردات أمنية تطال كل من اشتُمّ منه تمسّك بشعار الجهاد في سبيل الله، فيختفي مؤقتاً تحت الأرض، ويقلّص حركته إلى أقصى مدى، ولكنه لا يهدأ. فهو، من ناحية، لا يكفّ عن نصرة الجهاد، بالمال في فلسطين خاصة، ونصرته بالمجاهدين في العراق. ومن ناحية ثانية، يعزّز أواصر الصداقة مع علماء الدين الرسميّين، ويحمي وجوده بأهله من المؤمنين، ويوسّع إطاره البشري، ويعمّق سيطرته على مناطق محددة، ولو اضطر إلى إقامة تحالفات سطحية مع أطراف فاعلة. كما أن جسم الجهاديين لا يكف عن تطوير مواقفه السياسية وعقيدته الجهادية، وجعلها قريبة من عقول الشبان ووعيهم، وإقامة الحجة على فشل الخيارات الأخرى وفسادها. وهو حريص دائماً على عدم تكرار «خطأ» نهر البارد، والحفاظ على لبنان كقاعدة عمل خلفية لكل من أراد مقاومة الإسرائيليين ومقارعة الأميركيين. وجسم الجهاديين في لبنان بأجمعه أصبح أكبر من أن يغرق في صراعات تافهة وهامشية بين قوى 8 و14 آذار، وهو لديه ما لديه من صراعات مع الأميركيين ومن يتبعونهم.
وفي المقابل، لا يشير ما تتعامل به السلطات في لبنان إلى إدراك عميق لماهية ما يواجهه المواطنون في هذه البلاد، ولا إلى فهم جدّي لعقيدة المجاهدين السلفيين. وهي، إذ ترى ما حصل في مخيم نهر البارد مفصلاً لم يعد بإمكان فتح الإسلام التحرك من بعده، فإنها تثبت بهذا الاستنتاج كم هي بعيدة عن الواقع، وكم هي غارقة في أوهامها.
فتنظيم فتح الإسلام استعاد قدراته، وأعاد هيكلة انتشاره، ورمّم خريطة تحالفاته، وانطلق إعلامياً بقوة مجدّداً، وإن كان على غرار الإعلام الجهادي الحديث في العالم: الوسائل التقنية الحديثة هي المعتمدة من دون ضجيج. وقد تجاوز تنظيم «فتح الإسلام» ما جرى معه في مخيم نهر البارد، وبات يثبت قدرته على تنفيذ عمليات، سواء في لبنان أو في فلسطين، وبات يحتجّ على ما قامت به حماس أخيراً من اعتقال لعدد من مجاهديه في قطاع غزة. كذلك بدأ القسم الإعلامي في «فتح الإسلام» بمزاولة نشاطه التعبوي والتدريبي، عبر موقعين على الأقل على شبكة الإنترنت، وأعلن مقتل 98 من عناصره خلال معارك نهر البارد، ناشراً بعض التفاصيل عنهم. ونشر صوراً لمقاتلين مصابين تلقّوا العلاج خلال معارك نهر البارد دون شروط طبية، وفتح أبوابه للنقاشات الداخلية والعامة.
وغير بعيد عن فتح الإسلام، فإن العديد من الشبكات السلفية الجهادية العاملة والناشطة تبشّر كل من يريد النظر إلى إمكان انطلاق حملات جديدة ضدها. وحين تحاور ناشطيها، فإنهم يبدون خشيتهم من قيام السلطات اللبنانية بعمليات ضدّهم إرضاءً للأميركيين، أو غيرهم من حلفاء الولايات المتحدة، ويصرّون على أنهم لا يمارسون أي نشاط في لبنان، أما خارج لبنان فإن واجبهم يحتّم عليهم النصرة.
وتنشط السلطات الأمنية اللبنانية حالياً في القبض على عناصر متهمّين بالتعاون مع القاعدة، إلا أن التصنيف لتنظيم القاعدة نفسه في لبنان يضعه في خانة «الأداة الأمنية» العاملة لمصلحة قوى خارجية، سواء كانت سوريا أو السعودية. إلا أن الواقع السياسي اللبناني المضطرب أدى إلى تمركز القاعدة وانتشارها في كل المناطق، مدعومة من شبان وعلماء دين يعتقدون بحق قضيتهم في الانتصار. وباتت شبكات القاعدة التي تسلّط عليها الأضواء فتقع في الأسر، تعطي صورة أوضح، وإن كانت لا تزال مجتزأة، عن ماهية التنظيم والمستفيدين من انتشاره.
تتعدّد الأسئلة عما مرّ على لبنان، ومن أين دخل بلد الأرز في زمن «القاعدة»؟ وهل تحالفت انتفاضة الاستقلال مع السلفيّين الجهاديّين؟ وما هو الدور السوري في ضخّ مئات من المقاتلين العرب إلى لبنان؟ وتنطلق شرارة الأسئلة التي لا يمكن كبحها: ما هي علاقة فتح الإسلام بتنظيم القاعدة؟ من أين أتى مقاتلوه وكوادره العرب؟ ما الذي كانت تعده فتح الإسلام قبل المعارك؟ وماذا حلّ بمقاتليها؟ كيف يعمل تنظيم القاعدة في لبنان ومن هم كوادره؟ ما هي أهدافه الفعلية، ولماذا لم يجر تبنّي تنظيم «فتح الإسلام» من التنظيم الدولي؟ من هم العرب الذين دخلوا لبنان، ومن هم الخارجون منه وإلى أين ولماذا؟ من يدرّب المتطوّعين في لبنان وأين؟ على ماذا يتدرّب مقاتلو القاعدة، وما هي مهاراتهم في أطر التزوير والتزييف؟ ما هي علاقات القاعدة بالطبقة السياسية اللبنانية، وما هي علاقات فتح الإسلام بأهل السياسة في البلاد؟ من أعطى التسهيلات لفتح الإسلام للتحرك في كل لبنان، وما هي هذه التسهيلات؟ من هي الشخصيات المقرّبة من قيادات القاعدة التي دخلت إلى البلاد في عامي 2006 و2007، ومن هي المجموعات القاعدية التي عملت في لبنان وما كانت مهماتها الرئيسية؟ ما هو عدد المجموعات وما هي هويتها وانتماءاتها؟ من هي السفارات التي غطّت أو تعاونت أو سهّلت مهمات القاعدة؟ ومن هي السفارات التي سرّبت معلومات عن نشاطات القاعدة في لبنان وإلى أية جهات؟ ما الذي تعلمه القوى الأمنية اللبنانية عن نشاط القاعدة وما الذي تجهله؟ كيف تتواصل مجموعات القاعدة في لبنان مع قيادة التنظيم العالمية؟ وكيف كانت تعمل آلية المراقبة والتحكّم والسيطرة في نهر البارد قبل المعركة.
أجرت «الأخبار» تحقيقاً سيقدَّم على عشر حلقات، وهو تحقيق متعدّد المراحل ومقسّم إلى جانب ميداني وآخر بحثي واستقصائي. والمعلومات الواردة جُمّعت من عدد من علماء الدين ومن أقرباء وذوي متّهمين أو مطاردين، ومن شبّان ومجاهدين، ومن مصادر مغفلة، كما من أفلام فيديو خاصة، ومن لقاءات مباشرة أو بالواسطة البشرية، أو إلكترونياً، وعبر محادثات ورسائل إلكترونية. وهي معلومات تم التحقق من مصادرها، كما تمت مقابلة المعنيين بأمرها والاستماع إلى نفيهم أو تأكيدهم بشأن ما كتب عنهم. وستقدم «الأخبار» معظم المعلومات المتوافرة لديها، كما ستشير الى التعارض في المعلومات في الحالات التي يرد فيها.
(غداً: فرار «فتح الإسلام» حسب رواية أحد عناصرها)