تقول الأسطورة "في لبنان لا تتراجع أسعار العقارات أبداً"، لذلك "يعدّ هذا العقار الملاذ الآمن للاستثمار دائماً". منذ عام 2010، يعاني سوق العقارات من "أزمة" ركود. تأتي هذه "الأزمة" مباشرة بعد فورة استمرت منذ عام 2008 حتى 2010 وأدّت الى خلل في العرض والطلب. ست سنوات مرت على بداية "الأزمة" ولم تتراجع الأسعار، مناقضةً بذلك أبسط القوانين الاقتصادية الأساسية: عندما يكون العرض أكثر من الطلب لا بد من أن تنخفض الأسعار. إلّا أنّ المعادلة الموجودة في "الأسطورة" لا علاقة لها بأن "لبنان عملة نادرة، والعقار فيه عملة نادرة"، على ما صرّح محافظ بيروت زياد شبيب في معرض "دريم 2016" العقاري منذ أيام. عدم تراجع الأسعار سببه واحد، ويعترف به جميع المطورين العقاريين: لولا تدخلات مصرف لبنان لكان "انهار" القطاع. "الانهيار" هنا نسبي، فهو بالنسبة إلى المطورين "انهيار" في حجم أرباحهم المرتفعة، بينما هو بالنسبة إلى الناس تصحيح منطقي وطبيعي للأسعار. الخلاصة إذاً واضحة: مصرف لبنان لا يريد أن يصحّح الأسعار، لذلك يحافظ عبر سياساته المالية على أسعار عقارات مرتفعة. أمّا السبب فهو أنّ "انهيار" أسعار العقارات سيضرّ بشكل مباشر القطاع المصرفي، إذ بلغت الضمانات المادية للمصارف على القروض حتى نهاية أيلول 2015 نحو 52 مليار دولار؛ منها 32 مليار دولار ضمانات عقارية. في حين تشكّل القروض لسوق العقارات التجارية نحو 23% من محفظة القروض، أي نحو 13.7 مليار دولار. أمّا قروض الإسكان فتشكّل 18% من محفظة القروض، او ما قيمته 10.7 مليارات دولار.هذا الارتباط الوثيق بين المطورين العقاريين والمصارف يدفع مصرف لبنان للانغماس اكثر في سياسة دعم اسعار العقارات، بذريعة "إنقاذ" الشركات العقارية وبالتالي الحفاظ على أرباح المصارف، وهذا ما يدركه جيداً المطورون العقاريون الذين يستفيدون من هذه اللعبة: "البنوك ما عندا مصلحة ينضرب القطاع"، يقولون مطمئنين.

وضع سوق العقارات

يأمل المطورون العقاريون أن يتحسّن وضع السوق خلال فصل الصيف جراء قدوم المغتربين اللبنانيين الى البلد، الذين باتوا "اللاعبين الأكبر في السوق العقاري"، كما يقول رئيس مجلس ادارة شركة صقر العقارية فادي جريصاتي، بعدما انكفأ رأس المال الخليجي عن الاستثمار في العقارات بسبب الأوضاع السياسية والأمنية. هذا الانكفاء كان جزءاً أساسياً من الأزمة، إذ "نبتت" المباني الفخمة والباهظة الثمن المخصصة لهؤلاء في بيروت، إلّا أنها بقيت فارغة مع وقوع الأزمة. يقول جريصاتي "لا نزال في الأزمة ولم نخرج منها، لكن يمكن القول إن السوق تعبان، لكنه ليس ميتاً".
رئيس مجلس ادارة شركة "بلاس بروبرتيز" جورج شهوان، يعتبر أن "السوق العقارية لديها نقطتا ضعف: الأولى متعلقة بوضع المنطقة الأمني والسياسي. والثانية ظهرت عام 2010 عندما توافدت الرساميل وارتفعت الودائع المصرفية وأصبحت المصارف تتجه إلى الإقراض في سوق العقارات وبات هناك توجه نحو الطلب العقاري، فطرحت الشركات العقارية مشاريع بكميات تتجاوز الطلب بثلاثة أضعاف، ما أدّى الى زيادة في العرض".
الشركات العقارية اليوم تتريث في مشاريعها، يقول جريصاتي ان "الشركات التي لم تتورط بالبناء وليس لديها التزامات بالتسليم توقف مشاريعها مؤقتاً. بالمقابل، هناك شركات مرتبطة بقروض وفوائد عليها أن تحرق أسعارها لتبيع". حتى "بلاس بروبرتيز"، وفق شهوان، "تنجز مشاريعها الموجودة، وليست في صدد الدخول في مشاريع جديدة في الوقت الحالي".
يصرّ المطورون على أنّ الأسعار إن لم ترتفع فإنها حتماً لن تنخفض

يقول شهوان ان "من يشتري اليوم هو من يريد أن يتزوج، أمّا الدفق الأكبر من المغتربين الذين يرغبون في التملك في لبنان فهؤلاء اشتروا عامي 2009 و2010". أمّا جريصاتي، فيرى أنّ "اليوم لدينا سوق شراء وليس سوق بيع، أي هناك أشخاص من أصحاب الرساميل ينتظرون هذه الأزمات لتضعف السوق ولتتعب الشركات مالياً من أجل شراء لقطات".
صحيح أنّ "الأزمة" التي تطاول السوق العقارية لم تؤدِ الى تصحيح الأسعار، إلّا أنّ "السوق تغيّرت من حيث نوعية العرض والطلب". يقول جريصاتي إنّ "الطلب اليوم يتركز على الشقق التي تناسب الإسكان للناس التي تنتمي للطبقة الوسطى والدنيا. هذه الشريحة هي الأكبر وتبحث عن شقق صغيرة ورخيصة خارج بيروت، ونحن تمكنا من التأقلم مع هذا الطلب وبتنا نقدمه". لا يقتصر الأمر على نوعية الشقق، إذ أجبرت "الأزمة" الشركات على تقديم عروض وتسهيلات، "فالمطلوب اليوم تقسيط السعر، وهو ما تقدمه الشركات التي تصل الى 8 سنوات تقسيط. إضافة الى المصارف التي تؤمن قروضاً مدعومة وتسهيلات بالدفع وهذا هو العامل الأهم". يؤكد شهوان على الأمر حيث ان "الأكثرية تريد شراء شقق بأقل من 200 ألف دولار"، لكنه يحذّر الشركات من تكرار سيناريو عام 2010 إذ "لا يجب أن يزيد العرض على الطلب"، لافتاً إلى ضرورة وجود بيانات احصائية بالمشاريع التي تنشأ.
رغم كل هذا الوضع "السيئ"، يصرّ المطورون على أنّ "الأزمة" شارفت على نهايتها، وأنّ الأسعار إن لم ترتفع فإنها حتماً لن تنخفض. يقول جريصاتي "إننا على مشارف موجة ارتفاع كبيرة للأسعار"، في حين يرى شهوان أنه "ستحصل عمليات بيع كثيرة، لكن الأسعار لن ترتفع لأنها بالأساس ارتفعت أكثر من اللازم عام 2010".

لماذا لا تتراجع الأسعار؟

يُجمع المطورون العقاريون على إجابة موحدة عن أسباب عدم تراجع الأسعار. يقول جريصاتي إنّ السبب يعود لأمرين: كلفة البناء وسعر العقار (الأرض)، "فقد ارتفع سعر العقار بشكل كبير عام 2010، ما يعطينا سعراً لا يمكن كسره. وهناك أيضاً أرباح المطور العقاري". يجيب شهوان "في لبنان لا يوجد مضاربة، وأكثرية أصحاب الأراضي هم إمّا ورثة وإما لديهم أراضٍ، وبالتالي لا يستدينون ليشتروا عقاراً. من يملك الأراضي؟ العائلات الكبيرة وبعض الأشخاص". لكن كشركة لماذا لا تخفضون أسعاركم؟ "لأن أسعار الأراضي لا تتراجع".
حجة ارتفاع أسعار العقارات تشكك بها مسألتان أساسيتان: أولاً، نسبة كبيرة من المشاريع العقارية هي عبارة عن شراكة بين صاحب الأرض والشركة العقارية. وثانياً، إنّ مخزون العقارات الذي تم شراؤه في التسعينيات يعد هائلاً. فالشركات الكبرى اشترت عقارات في تلك الفترة وقبل عام 2007، أي قبل الفورة العقارية وقبل ارتفاع الأسعار. أمّا في ما يتعلق بتكلفة البناء، فلا بد من الإشارة الى مؤشر واحد كمثال لانخفاض الأسعار وهو سعر الحديد الذي انخفض خلال السنوات الماضية بمعدلات كبيرة، كذلك سعر الاسمنت، اذ تبين ان مصانع الاسمنت تصدر بأسعار اقل بكثير من السعر المعلن محلياً، ما يعني ان بعض المطورين يحصلون على أسعار أدنى من الأسعار المصرح عنها.
لا تغيب مسألة "الندرة" عن لسان معظم المطورين، فـ"قلّة الأراضي ورغبة اللبناني بالتملك في بيروت وجبل لبنان" تمنع الأسعار من الهبوط. إلا ان الحديث عن الندرة يقتصر على منطقة ضيقة حددها شهوان هي بيروت وجزء من جبل لبنان، وبالتالي هي ليست ندرة عامة على الأراضي اللبنانية. لكن حتّى "الندرة"، إذا سلّمنا جدلاً بها، ليست السبب الرئيسي في عدم تراجع الأسعار خلال 6 سنوات من الركود، ففي جبل لبنان عقارات شاسعة غير مبنية، كما ان هناك مناطق واسعة قريبة من بيروت يمكن وصلها بالطرقات كي تصبح محط انظار تجار البناء وطالبي السكن.




لبنان: أرض وبنك!
هل دعم مصرف لبنان لسوق العقارات مهم؟ تأتي الإجابات لتكشف الواقع الفعلي لعدم تصحيح الأسعار ولتنقض جميع الحجج المقدّمة لأسباب عدم تراجع الأسعار. يقول رئيس مجلس ادارة شركة صقر العقارية فادي جريصاتي: "لولا دعم مصرف لبنان لما استطعنا ان نكمل. فالبنك المركزي هو اللاعب الأكبر في السوق اليوم بطريقة دعمه والقروض المدعومة التي يقدمها للمصارف. مصرف لبنان بإمكانه أن يقلب الآية لينعش القطاع أو يقتله"! أخيراً، يضع رئيس مجلس ادارة شركة "بلاس بروبرتيز" جورج شهوان النقاط على الحروف بحزم: "لبنان قطاعان: أرض وبنك. لا في صناعة ولا سياحة بالمعنى الكبير، ما حدا عندو مصلحة أي شركة عقارية تأفلس".