حلب | من بين المواقع الأثرية السورية الكثيرة التي أصابتها لعنة الحرب، تبرز حلب القديمة بوصفها مدينة حيّة تشكل نسيجاً فريداً، كانت تضم مساحات سكنيّة كبيرة، وأسواقاً تدور فيها عمليات اقتصاديّة ضخمة (من أطول الأسواق المسقوفة في العالم)، علاوة على المباني الأثرية والتاريخية الفريدة التي تعود إلى حقبٍ وطُرزٍ معمارية متنوعة.
اليوم، عليكَ أن تضعَ كلّ ما سبق بين قوسين وأنت تتجوّل في المدينة المنكوبة. تتأملُ خراب سوق الزهراوي، أنقاض المكتبة الوقفيّة. تدلفُ من «سوق النسوان» المحاذي للجامع الأموي الكبير، تفكر في الوجهة التالية: نحو سوق الذهب؟ سوق العطّارين؟ السقطيّة؟... إلخ. صارت كلها متشابهةً «بفضل الحرب». تحاول ذاكرتك استعادة صورة السوق وتفرّعاته، والاكتظاظ الدائم «أيام الخير» بصراخ الباعة ومساومات الزبائن المتنوعي الهيئات واللهجات، القادمين من أحياء مُحافظةٍ وأخرى منفتحة ومن قرى الريف. تسأل في سرّك: «هل تُستعاد؟»، ولا تُجيب، فالغد وحده سيكون قادراً على تقديم إجابات شافية.
الدخول في تفاصيل الخراب المحيط بك، ومناقشة سبُل ترميم ما يمكن ترميمه مع المختصين والخبراء سيحيلك إلى مستوى ثانٍ أقل سوداويّة: يمكن إنقاذ الكثير، شريطة اتّباع قواعد ومعايير شديدة الصرامة والدقّة. المدير العام للآثار والمتاحف مأمون عبد الكريم يبدو مسكوناً بهاجسٍ أساسي طَوال حديث «الأخبار» معه، وهو «ضرورة الحفاظ على أصالة النسيج العمراني لكل ما سيُرمّم». يوضح عبد الكريم أنّه بنتيجة الجولات المكثّفة والمعاينات المبدئيّة التي أُنجزت خلال الشهور الماضية، يمكن تقسيم المدينة تبعاً لحجم الضرر إلى ثلاثة مستويات «40% من المدينة القديمة وضعُه جيّد وشبهُ سليم، 30% متضرّر بنسبٍ متفاوتة وقابلٌ للتّرميم، و30% وضعه مأسويّ تماماً».

مبانٍ وأبواب

بعد امتصاص صدمة المشاهد الأولى، سيكون بإمكانك مواصلة الجولة بهدوء وتروّ، لتحظى برؤية مبانٍ عريقةٍ في حالات تُراوح بين المقبول والجيّد. على مقربة من «خان الجمرك» الذي أصيب بأضرار كبيرة، يطالعك «بيمارستان أرغون الكاملي» في حالة جيّدة. والبيمارستان مبنى أنشئ عام 1354 (فترة حكم المماليك) ليكون مشفى لمعالجة الأمراض العصبية اعتماداً على التأمل وصوت الموسيقى ونوافير المياه إلى جانب العقاقير الطبيّة. في حي الجلّوم، تطالعك «كنيسة الشيباني» التي يعود إنشاؤها إلى القرن الثاني عشر، وهي أقل حظاً من البيمارستان، إذ طاولتها بعض الأضرار، لكنّ ترميمها يبدو أمراً متاحاً. من بين المباني العريقة، التي تبدو شبه سليمة، يبرز أيضاً «جامع الشّعيبية» وهو وفقاً لمعظم المراجع والدارسين «أوّل بناء إسلامي تمّ تشييده في حلب». يقع «الشعيبيّة» على بعد أمتار من «باب أنطاكية» وهو حسب بعض المؤرّخين أقدم أبواب حلب القديمة، وسمي بهذا الاسم لأنه «أوّل الطريق إلى مدينة أنطاكية منذ أيام الدولة السلوقية في القرن الرابع قبل الميلاد»، ويعود تاريخ الباب بشكله الحالي إلى عام 1016م، جُدّد عام 1389 وهو حالياً شبه سليم. يماثله في ذلك «باب قنسرين» الذي ترجّح بعض المصادر أنّه بُني زمن سيف الدولة الحمداني (القرن العاشر للميلاد) استناداً إلى نقشٍ يذكر اسمه (لحقت أضرار متفاوتة الشدّة بالسور التاريخي المجاور لباب قنسرين). «باب الحديد» أيضاً في حالة جيّدة، ويعود زمن إنشائه إلى عام 1509م زمن حكم قانصوه الغوري. وخلافاً للأبواب الثلاثة، يبدو «باب المقام» في حالة مأسويّة ومهدّماً بشكل شبه تام، ويعود تاريخ إنشاء الباب إلى القرن الثاني عشر للميلاد. وبهذا تكون المدينة قد خسرت واحداً من أربعة أبواب كانت متبقيّة من أبوابها التسعة (أنطاكية، قنسرين، الحديد، المقام، النيرب، الأحمر، النصر، الفرج، الجنان أو جنين باللهجة الحلبية).

محيط القلعة وحي الجْدَيدة

الأضرار في محيط القلعة كبيرة جدّاً، حيث نسفت مبانٍ بالكامل في عمليّات تفخيخ وتفجير نفّذها المسلّحون (مثل مبنى الكارلتون، ومبنى السراي/ مقر المحافظة القديم في مواجهة باب القلعة). كذلك لحقت أضرار كبيرة جدّاً بجامع السلطانيّة، المدرسة الخسرويّة، وبدرجة أقل خان الشّونة. القلعة في حد ذاتها سليمةٌ بمعظم أجزائها، باستثناء أضرار طاولت الجسر الخارجي، ودمار لحق ببرج من الجهة الشماليّة. في الجهة المعاكسة لباب القلعة، لحق دمارٌ كبيرٌ بمبنى تاريخي بُني ليكون داراً للبلديّة عام 1907، حُوّل لاحقاً إلى مقرّ لفرع «الهجرة والجوازات» قبل أن يُخلى ويُعرض للاستثمار السياحي عام 2007. تهدّم المبنى عام 2012.

من بين الصعوبات التي
تواجه عملية الفرز قلّة اليد العاملة المدرّبة والخبيرة
مقابل المبنى، ستلحظُ حركة دؤوبة لترميم مبنى تاريخي ملكيّته خاصّة، وهو مطعم «بيرويا»، ليكون أول منشأة سياحية بدأ أصحابها العمل على ترميمها في المدينة القديمة. يتحفّظ صاحب المطعم عبدالله عجم عن الخوض في أي تفاصيل حول عملية الترميم، مدفوعاً بهواجس تحكم جزءاً كبيراً من الشارع الحلبي في العلاقة مع الإعلام. ينافس حي «الجْدَيدة» التاريخي محيطَ القلعة من حيث حجم الدمار. تضرّرت مبانٍ كثيرة في الحي الواقع خارج السور القديم، مثل متحف التقاليد الشعبية (دار أجق باش) ومتحف ذاكرة المدينة (دار غزالة)، ويقول المدير العام للآثار والمتاحف مأمون عبد الكريم لـ«الأخبار» إنّ «المديرية خصّصت مبلغ 150 ألف دولار من موازنتها لترميم هذين المبنيين الاستثنائيين، وقد بوشر في إنجازات الدراسات اللازمة». في الحي نفسه، مُحيت معالم «ساحة الحطب» الشهيرة بشكل شبه كامل، علاوة على أضرار كبيرة لحقت بمعظم الفنادق التراثيّة العريقة. أما سوق «بوّابة القصب» التاريخي القريب، فهو في حال جيّدة. كان السوق يضم محالّ وورشَ تصنيع مفروشات منزلية، وقد عاود بعضها نشاطه أخيراً.

الجامع الأموي

يُقسم الضرر اللاحق بالجامع الأموي الكبير إلى قسمين متفاوتي الشدّة: الأخف لحق بأجزاء متفرّقة من الأرضيّة والجدران وبعض الأعمدة، أمّا الأعظم فهو انهيار مئذنته بشكل كليّ. هناك معالم لم تتعرّض للأذى مثل المزولة الشمسيّة، والمحراب. نالت إعادة ترميم الجامع أولويّة عن كل ما سواها. باشرت اللجان عملها، وتم البدء بأعمال ترميم إسعافيّة تخصّ «القبليّة» والمدخل الشمالي. أمّا عملية إعادة بناء المئذنة من أنقاضها، فمن المُنتظر أن تكون عمليّة شاقّة وطويلة. أنجز «مكتب ممارسة مهنة الهندسة في جامعة حلب» أخيراً الدراسة اللازمة لتوصيف الحالة الراهنة، ودراسة مسقط السقوط ورسم الحجارة وتقييمها. معظم حجارة المئذنة موجودة، والمرحلة التالية من الأعمال فرز الحجارة، وهي وفقاً لخبراء الآثار مهمة شاقة وصعبة جداً. ومن بين الصعوبات التي تواجه عملية الفرز، قلّة اليد العاملة المدرّبة والخبيرة. بعد إنجاز الفرز، يمكن البدء بترميم الحجارة ذاتها، حيث تعرّض بعضها للضرر بفعل الانهيار، أو بفعل العوامل الجوية. لاحقاً، يمكن البدء في إعادة البناء. والخبر الجيد أن المئذنة موثقة بدقة متناهية، ما يجعل إعادة بنائها بصورة مطابقة أمراً ممكناً.

مخاطر ومقترحات

يتحدّث عدد من الخبراء عن صعوبات كثيرة تواجهها عمليات الترميم وتهدّد بنتائج سيئة ما لم تتمّ مراعاتها. ومع التشديد على عدم ذكر الأسماء، تشير المصادر (من بينها من هو على تماس مع خُطط الترميم) إلى أن «أي خلل قد تلحقه عمليات الترميم بأصالة المدينة القديمة قد يؤدي إلى كارثة تُكمل ما بدأته الحرب».

أي خلل قد تلحقه عمليات الترميم بأصالة المدينة القديمة قد يؤدي إلى كارثة
وتوضح المصادر لـ«الأخبار» أنّ من بين المخاطر «إيكال التنفيذ إلى جهات غير خبيرة بهذا النوع من الأعمال». وتشير إلى «تصدي جهة مثل «مؤسسة تنفيذ الإنشاءات العسكريّة/ متاع» لعملية إعادة بناء مئذنة الجامع الأموي، وهو أمر يبدو مغامرة محفوفة بالمخاطر». لكنّ مدير الآثار والمتاحف يؤكد لـ«الأخبار» أنّ «كل العمليات تتم بإشراف المديرية كجهة علميّة متخصصة». ويضيف «العمليات ستلتزم الحفاظ على هويّة المباني ومراعاة أدق معايير الترميم، وتحترم القواعد العملية المعتمدة من قبل اليونسكو ومنظمة إيكوم العالمية وسائر المنظمات العلمية المعنية». يشير الباحث عامر رشيد مبيّض إلى بعض الأخطاء والتجاوزات التي بدأت تعتري عمليات الترميم؛ ومن بينها العمل العشوائي في بعض الممتلكات الخاصّة، وعدم تغطية أرضية الجامع الأموي قبل البدء بعمليات الترميم، ما يجعلها عرضةً للتصبّغ. ينتقد مبيّض عدم الاستفادة من جميع الخبرات المتوافرة في حلب، والاقتصار على أسماء بعينها. كما يرى ضرورة أن تلعب نقابة المهندسين في حلب دوراً أساسياً في عمليات الترميم «نظراً إلى وجود أعداد كبيرة من ذوي الكفاءات العالية والخبرات، وعدم وجود مهندسين في مديرية الآثار والمتاحف بحلب، باستثناء مهندسين إداريين ليسوا من ذوي الخبرة». أما الباحث علاء السيد فيقول «حلب القديمة هي معلم تاريخي وليست مجرد أبنية هندسية، ولا يمكن أن يقوم بترميمها مهندسون إنشائيون فقط من دون النظر إلى بعدها التاريخي». يقول السيد لـ«الأخبار» إنه «يجب أن يرافق مهندسي الترميم باحثون تاريخيون، وينبغي تشكيل لجنة إشراف موسعة تضمّ تاريخيين وإنشائيين جنباً إلى جنب، مع ملاحظة أن معظم الباحثين في تاريخ المدينة ليسوا من أكاديميي كليات التاريخ الجامعية، بل هم من عشاق المدينة ومن اختصاصات مختلفة».

لا «سوليدير» في حلب

يؤكد المدير العام للآثار والمتاحف أنّ التحدّي الأكبر هو «عودة حلب بألقها، لا بمجرّد ديكور شكلي عشوائي»، ويضيف «للأسف، ليس من الممكن عودتها إلى ما كانت عليه تماماً.
هناك خسارة وقعت، ولكن علينا أن نتشارك في تخفيف وطأتها». يقول «نحن بأمسّ الحاجة الى تضامن جميع المؤسسات الوطنية، حكومية وغيرها، وإذا نجحنا في حشد التضامن المطلوب والتعاون الدولي، يمكن إنقاذ أكثر من 70% من حلب القديمة والحفاظ على روحها، وبالتالي إبقاؤها على قائمة التراث العالمي». يوضح أنّ «خصوصية حلب القديمة تنبع من كونها منظومة متكاملة بأسواقها ومبانيها ومناطقها السكنية، وهذا يجعل التحدي أكبر، ولا بأس إذا استغرقت الأعمال زمناً طويلاً». يشير في الوقت نفسه إلى بعض الأعمال الإسعافية التي ينبغي إنجازها استباقاً لـ«شتاء آخر قد يخلّف تداعيات خطيرة إضافيّة بسبب عوامل الطقس». ويشدّد الرجل على أنّ حلب لن تكون مسرحاً لـ«تجربة تشبه تجربة سوليدير (بيروت). سنتحاشى الأخطاء التي وقع فيها سوانا، يجب أن نقدم تجربة ريادية للعالم، ونحول حلب إلى درس رغم مآسي الحرب، والسوريون قادرون على ذلك». يُظهر الرّجل تفاؤلاً بإمكانية «تحويل تراثنا إلى مشروع للمصالحة يجمع السوريين حوله». يقول «أعتقد أن المراحل القادمة تحمل بشائر خير في الحصول على دعم دولي تام لمؤازرة حلب القديمة رغم العقوبات والحصار الاقتصادي، وما يعنيه ذلك من مشكلات وعوائق».




«يونسكو» على الخط

تُظهر منظمة اليونسكو اهتماماً كبيراً بمدينة حلب القديمة بوصفها أحد مواقع التراث العالمي. عقدت المنظمة اجتماعاً فنياً وتنسيقياً موسعاً في بيروت مطلع الشهر الماضي بغية «وضع استراتيجية لإنعاش مدينة حلب، واستعراض المبادرات الوطنية والدولية الحالية والمتوقعة، واتخاذ قرار حول وضع إطار مشترك لإعادة تأهيل التراث الثقافي لمدينة حلب وصونه». يوضح مأمون عبد الكريم أن «الاجتماع تمّ بناءً على طلب مديرية الآثار والمتاحف». ويؤكد لـ«الأخبار» أن «العلاقة بين الجهتين ممتازة، واليونسكو لم تتخلّ عنّا نهائيّاً، وتعاملت مع ملف الآثار السورية بمسؤولية وبعيداً عن التسييس». ووفقاً لعبد الكريم، فقد كانت المنظمة «سبباً في تقديم الاتحاد الأوروبي معونات ماليّة لدعم التراث الثقافي السوري، رغم العقوبات الظالمة المفروضة على سوريا». ويضيف «عندما تكون هناك حاجة إلى تدخل إسعافي يتدخلون فوراً. فمثلاً، قدمت المنظمة أخيراً تمويلاً فوريّاً وعاجلاً لترميم جسر قلعة حلب». كذلك تبذل المنظمة جهوداً «في تأهيل الكوادر والدعم داخل سوريا وخارجها، إضافة إلى ملاحقة لصوص الآثار». يوضح عبد الكريم أنّ «وضع حلب على قائمة يونسكو للمواقع المهددة (عام 2013) ليس عقوبةً كما تم الترويج حينَها، بل هي خطوة لتوفير الدعم ودق ناقوس الخطر. المدينة كانت مثل كثير من المواقع السورية تحت الخطر وفي خضم الحرب، ولا ينبغي أن نختبئ خلف أصابعنا».