قبل نحو 12 عاماً، وبعيد تعيين القاضي طانيوس خوري رئيساً لمجلس القضاء الأعلى، خلفاً للقاضي نصري لحود، جاء الثاني إلى مكتب الأول ليهنئه بالمنصب الجديد. وجد عنده ثلاثة قضاة، كانوا لا يغيبون عن مكتبه عندما كان هو في المنصب، ولا شغل لهم سوى التملّق. ضحك لحود وقال لخلفه خوري: «انتبه! يبدو أن القفا تتغيّر، بينما اللاحسون هم ذاتهم».
هذه الرواية ينقلها أحد القضاة اليوم، ممن شهدوا تلك المرحلة، في تعليقه على الحكم الصادر أخيراً عن محكمة المطبوعات ضد جريدة «الأخبار». ولكن ما علاقة هذه الحادثة في تعليقك على حكم القاضي روكس رزق الأخير؟ يجيب: «لا أقصد هنا القاضي رزق. المسألة أبعد من محكمة المطبوعات. ما أقصده أن المشكلة تكمن في العقلية السائدة عند قسم لا بأس به من قضاتنا، الذين يراعون معارفهم في أحكامهم على حساب العدالة. لا أريد أن أتّهم رزق، لأني لا أعرف ماذا عنده في القضية، أو على ماذا بنى قراره... لكن ما أعرفه جيداً أن عملي في القضاء علّمني أن القضاة لا يُحبون أن يتناولهم أحد، في الإعلام وسواه، وهذا عرف سائد بأنهم يتضامنون مع بعضهم البعض في الأحكام إذا كانت الخصومة من أطراف خارج القضاء». هكذا، يبدو أن ذهنية «العصبية القضائية» لم تستحوذ على هذا القاضي. هو يرفض التعميم طبعاً، كما تفعل «الأخبار»، لكن هذا لا يبدد حسرته من «النظرة السيئة التي تلحق بالقضاء ككل بسبب سلوك بعض القضاة».
قاض آخر، ممن خبروا قضايا المطبوعات سابقاً، يقول إنه لم يطّلع على نص الحكم بعد، وبالتالي «سأحاول أن أقرأه جيداً لأفهم حقيقة على ماذا ارتكز القاضي رزق». لكن، من حيث المبدأ، يقول: «عندما يُثبت صاحب الكلام صدق كلامه، فهنا لا مكان لاعتبار حصول الذمّ، وهذا يختلف عن القدح في القانون، الذي لا شيء يبرره أو يلغيه». يستغرب القاضي أن يكون رزق قد أورد في حكمه عبارة «ليس إلا». هذه العبارة التي أشار فيها الحكم إلى أن القاضية رندة يقظان، المدّعية على «الأخبار»، عاقبتها الهيئة العليا القضائية للتأديب بخفض درجتين من تدرجها الوظيفي «ليس الا». يقول: «4 درجات أو درجتان أو نصف درجة، ليست مهمة العقوبة هنا، طالما أننا نتحدث عن عقوبة أساساً، ما يعني ثبوت ما سيق ضدها في المقال أو شيء منه، وبالتالي ليس مفهوماً هنا التقليل من قيمة العقوبة للحكم على المدّعى عليه بتهمة الخبر الكاذب!».
قضاة كثر لم يفهموا «منطقية» حكم محكمة المطبوعات ضد «الأخبار». منهم من قال رأيه صراحة، ومنهم من فضل أن يلتزم الصمت، في ظل شريحة ثالثة قررت أن تناصر القاضي في حكمه على قاعدة «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً». هؤلاء، الذين من الشريحة الثالثة، يبدو أن ذهنية «الجاهلية» تسيطر عليها. ذهنية «التعصب القبلي _ القضائي» إن جاز التعبير. ربما يجد البعض مبرراً لهذه الذهنية في مختلف القطاعات، عند كل الموظفين، ولكن كيف يمكن التبرير، فضلاً عن التنظير، لهذه الذهنية في القضاء! القضاء الذي غاية وجوده إحقاق العدالة وإقامة الحق بالدليل والبرهان! ماذا يبقى من القاضي إن كان حكمه في الحق تحدده وساطة أو قرابة أو زمالة؟ كثيرون من المتابعين الحقوقيين، وبعض المحامين، قالوا لـ«الأخبار» بعد صدور الحكم إن ما حصل «كان يجب أن يكون متوقعاً لديكم، إذ ليس من المألوف في القضاء اللبناني أن يدّعي أحد القضاة بصفة شخصية على مواطن عادي، أمام القضاء، ثم يربح المواطن العادي. نادراً ما يحصل هذا، ولكن لا مكان للمثاليات في القضاء اللبناني، هناك واقع ولا بد من التعامل معه». هل علينا أن نسمع لهؤلاء؟ العمل بنصيحتهم يعني أننا سلّمنا بأن هذا هو «الواقع» ولا بد من الاستسلام لما هو «شاذ عن العدالة». هنا الخيار للناس، للمواطنين، إما أن يسلّموا، وكثيرون منهم سلّموا منذ زمن بعيد، وإما أن يرفضوا ويعترضوا ويرفعوا الصوت عالياً، مع كل ما يعنيه هذا من ضريبة ربما تكون مؤلمة جداً. هؤلاء المتابعون والحقوقيون يسألون: «هل أنتم حاضرون لدفع هذه الضرائب؟!».
أحد القضاة، ممن لم يستسيغوا حكم القاضي رزق، تمنى «التعامل مع الحكم بذكاء، والطعن به وفق الأطر القانونية، وتنظيم ردود الفعل وأن لا تكون عشوائية... وذلك لكي تصلوا في النهاية إلى ما تريدون، ولكي تثبتوا حقكم في إبداء الرأي. صحيح أن القاضية كان يجب أن ينقلها مجلس القضاء الأعلى من مركزها، بعد إدانتها وخفض درجاتها، فضلاً عن كسبها القضية ضد الجريدة، ولكن مع ذلك أنصحكم بالتعامل مع الأمر بذكاء وهدوء أعصاب». خلال اليومين الماضيين، كانت كلمة «العدلية مع الأخبار» تُسمع على أكثر من لسان، حتى داخل أروقة العدلية. هذا إيجابي جداً، دليل خير، إشارة إلى أن ذهنية «التعصب القبلي» ليست هي الحاكمة، رغم وجودها، وهؤلاء الذين يُراهن عليهم في أي تغيير.

يمكنكم متابعة محمد نزال عبر تويتر | @Nazzal_Mohammad