غزة | على نور خافت من شمعة شارفت على الذوبان، اجتمعت عائلة أبو محمد شابط، من حي التفاح شمال شرق مدينة غزة، حول سفرة لتناول وجبة الإفطار، وذلك على وقع أصوات انفجارات قنابل دبابات إسرائيلية متمركزة على الحدود الشرقية للقطاع، صوب منازل المدنيين العزل. فور انتهاء العائلة من تناول إفطارها، حاول أبو محمد أن يهدّئ من روع أبنائه الذين يطالبونه بإخلاء المنزل، واللجوء إلى أحد أقاربهم وسط المدينة، لعلهم يجدون قليلاً من الأمان هناك، لكن الأب أصرّ على البقاء في المنزل.
«إحنا مش راح يصير فينا شي. لا تقلقوا بيقصفوا بعيد عنا»، ما إن أنهى أبو محمد جملته هذه حتى سُمع دوي انفجار عنيف، ونشوب نيران هائلة في باحة المنزل الذي يجتمعون فيه. صدمة عنيفة تلقاها «أبو محمد» لم تسمح له بأن يستوعب أن منزله هو المستهدف، وخاصةً أن التيار الكهربائي مقطوع عنهم منذ ثلاثة أيام.
هي لحظات، لكنها مرّت على أبو محمد كأيام، وربما تعدّت الشهور والسنوات، رأى «فيها ما لم يره في عمره» الذي يتجاوز تسعة وخمسين عاماً. يقول لـ«الأخبار»: «تناثرت أشلاء أطفالي الصغار أمامي»، هو لم يرها بفعل الظلام المحيط بهم، لكنه شعر بذلك، لم ينتبه كثيراً لأصوات الجيران الذين يهللون ويكبّرون ويحاولون الدخول لإنقاذهم، فلسانه ربط عن الكلام، وصوته لم يساعده لطلب النجدة.

تحسّس الأب أولاده وشعر
بحرارة الدم الخارج منهم ليعلم أنهم أصيبوا


راح يتحسس بيديه على أبنائه، يشعر بحرارة في يديه ما إن يضعهما على جسد ابنه الذي لا يعلم من هو بالضبط. «شو هذا؟ مين انت؟ شو اللي بصير معك؟» أكثر من سؤال طرحه في بضع ثوان، ولكن دون إجابة، فلا حياة لمن ينادي. رفع يده من مكانها فشعر بتساقط قطرات ساخنة منه.
«هنا بدأت أصرخ بأعلى صوتي أطلب النجدة، لا أعرف أين أنا ولا أين هم أبنائي، فسخونتهم أرعبتني، وشعرت بأنني خسرتهم جميعاً»، يشرح لـ«الأخبار» وهو على سرير العلاج في مستشفى الشفاء الطبي، فيعاود سؤالنا: «ما الذي يجري، وأين أنا؟ ما كل هذا، هل هو كابوس؟».
سألناه عما جرى معه بالضبط، فقال إنه لا يتذكر شيئاً مما عايشه في الظلمة سوى دماء أطفاله الذين لا يميز بينهم، وضوء قوي سُلّط على عينيه من المسعفين، حجب الرؤية عنه تماماً، فغاب بعدها عن الوعي ولم يفق إلا وهو في المستشفى.
أثناء حديثنا معه، وصله خبر استشهاد أبنائه الثلاثة فراح يصرخ ويقول: «مستحيل لا يا ربي. لا تحرمني منهم يا الله، يا الله ما شفتهم بدي اياهم لسة يا ربي يا الله، والله وعدتهم اشتريلهم أواعي العيد لسة ما وفيت بوعدي». اقتربنا منه لمواساته في مصيبته، لكنه راح ينادي: «مش بكفي القصف والدمار، كمان ما في كهربا حتى تساعدني أن لو أنقذ واحد فيهم»، فيستطرد في قوله: «مش يمكن في منهم استشهدوا وهم يحاولوا ينشلوهم، يمكن كانوا عايشين وعدم وجود الكهربا قتلهم».
من الجدير بالذكر أن التيار الكهربائي منقطع عن مناطق واسعة في قطاع غزة، حيث يسيطر السواد الحالك على أغلب المناطق، ولا تتعدى التغذية بالكهرباء أكثر من أربع ساعات يومياً.
يصبح قدوم الليل كشبح مخيف يحاول أن يرعب سكان القطاع، ولا تختلف حال العائلات التي لم تطلها عمليات القصف كثيراً عن مثيلاتها، فليال طويلة يعيشها الفلسطينيون تحت أصوات الانفجارات التي تحدثها صواريخ الطائرات الحربية الإسرائيلية أو القنابل المدفعية التي تطلقها باتجاه منازل المواطنين الآمنين، في ظل انقطاع التيار الكهربائي، ينقطعون خلالها عن العالم الخارجي.