مثّل قرار تركيا إسقاط «الفيتو» عن عضوية السويد في «الناتو»، تحوّلاً دراماتيكياً في علاقاتها مع كلٍّ من الغرب وروسيا، وخصوصاً أنه جاء في إطار سلسلة انعطافات سجّلها الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، خلال الأسبوع الذي سبق انعقاد «قمّة فيلنيوس» الأطلسية. فالزعيم التركي، المشهود له بهذا النوع من التقلّبات، سَمح، أخيراً، بانتقال خمسة من قيادات «كتيبة آزوف» الأوكرانية المتطرّفة من بلاده (في مخالفة لتفاهمات مسبقة مع موسكو)، وأعطى، بعد لقاء جمعه إلى نظيره الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، في إسطنبول، الضوء الأخضر لبناء مصنع مسيّرات «بيرقدار» التركية على الأراضي الأوكرانية، في خطوةٍ عدّها مراقبون لحظة تأسيسيّة لمسار انحداري مرتقب على مستوى العلاقات التركية - الروسية، وربّما أيضاً لصدام عسكري مباشر ستزداد أرجحيته بين موسكو والغرب، في حال تكلّلت مساعي استوكهولم للانعتاق من «إرثها الحيادي» والانضمام إلى التكتُّل العسكري الغربي، بالنجاح.
العلاقات الروسية - التركية: الامتحان الصعب
على رغم اشتغال أنقرة وموسكو للحفاظ على تعاونهما الثنائي (التصاعدي) بعد الحرب الأوكرانية، وبخاصّة في مجال الطاقة، يَظهر واضحاً، وفق مراقبين، أن كلا الطرفَين يستخدمان بعضهما بعضاً ضدّ الغرب. وفي حين مالت موازين القوى في توجيه دفّة العلاقة، لمصلحة روسيا، لسنوات خلت، بالنظر إلى الثروات الغازية الهائلة المتوفّرة لديها، إضافةً إلى تفوّق صناعاتها العسكرية وجاذبيتها العالمية، وبخاصة للأتراك، فإن تفجّر الحرب الروسية - الأوكرانية أسهم في قلْب الأمور لمصلحة تركيا، سواء عبر اعتماد الأخيرة كمنبر ديبلوماسي له صفة «الحياد النسبي» بين موسكو وكييف - الأمر الذي أثبت جدواه في أكثر من محطّة، كـ«اتفاق الحبوب»، وصفقات تبادل الأسرى -، أو من خلال محاولة موسكو تسخير العلاقات مع أنقرة لغايات عسكرية، بصورة تضمن للروس حقّ الوصول الكامل إلى أيّ منطقة جديدة على سواحل البحر الأسود، للسيطرة عليها (كما هي الحال بالنسبة إلى مقاطعة زابوروجيا)، من دون منغّصات تُذكر، وذلك انطلاقاً من الامتيازات الممنوحة لتركيا في تنظيم ملاحة السفن المدنية والعسكرية عبر مضيقَي البوسفور والدردنيل في أوقات السلم والحرب، وفق «اتفاقية مونترو». وعلى إثر التطوّرات الأخيرة في علاقات أنقرة - «الناتو»، وما أعقبها من استهجان روسي، دفع موسكو إلى تعليق العمل بـ«اتفاق الحبوب»، ترتسم علامات استفهام في شأن آفاق العلاقات التركية - الروسية، ولا سيما أن انسحاب روسيا من الاتفاق سيرفع من قيمة الفاتورة الغذائية لعدد كبير من دول العالم، ومن ضمنها تركيا.
هنا، ثمّة جملة عوامل يمكن الاستناد إليها لاستشراف تلك الآفاق، من ضمنها الوضع الميداني في الساحتَين السورية والأوكرانية؛ ذلك أن الأولى تبقى مرشّحة لتصعيد تركي متوقّع تحت ذريعة «مكافحة التنظيمات الإرهابية»، بما قد يوسّع الهوّة بين الروس والأتراك، و«يستنسخ» ذكريات واقعة إسقاط مقاتلة «سوخوي 24» في عام 2015، فيما تزخر الثانية باحتمالات تعرّض القوات الروسية لانتكاسات عسكرية مع بدء «الهجوم المضاد» من جانب كييف، بما قد يُلحق ضرراً إضافياً بـ«الهيبة الدولية» لروسيا، بعدما نال هذه الأخيرة أذى من جرّاء تمرّد مجموعة «فاغنر»، ويغري بالتالي تركيا بفكرة الابتعاد عنها، على نحو يرفع من مستوى «المنافسة الجيوبوليتيكية» بينهما في آسيا الوسطى، والقوقاز، ويقرّب أنقرة من الموقف الغربي أكثر فأكثر.
وفي هذا السياق، ينطلق مدير قسم الدراسات التركية، التابع لـ«صندوق مارشال الألماني» (مقرّه الولايات المتحدة) للدراسات الأمنية، أوزغور أونلو هيسار جيكلي، من واقعة «تمرّد فاغنر»، للقول إن «إردوغان ربّما يكون قد توصّل إلى تقديرات مفادها بأن وضع كلّ البيض في سلّة بوتين ليس فكرة جيدة»، مضيفاً أن انصياع الرئيس التركي لرغبات واشنطن وبروكسل أخيراً، يُعدّ «جزءاً من جهوده لإبعاد بلاده عن روسيا ودفعها نحو الغرب». ويلمّح الباحث في معهد «المجلس الأطلسي» للبحوث، دانييل فرايد، بدوره، إلى أن الرئيس التركي ربّما يحدوه الاعتقاد بأن «الرهان على بوتين بعد واقعة التمرّد، قد يبدو أمراً مفتقراً إلى الحكمة، كونه أعطى مؤشّرات إلى مدى ضعف نظام (بوتين)». إضافة إلى ما تقدَّم، تتخوّف أنقرة ممّا تصفه دوائر أكاديمية بـ«استيقاظ النزعة التوسّعية لروسيا» على خلفية حرب أوكرانيا - وهي للمفارقة سمة ملازمة للسياسة الخارجية التركية خلال العقد الأخير -، وهو معطى قد يدفع في اتّجاه انجلاء حقيقة الاصطفاف التركي إلى جانب الحلف العسكري الغربي. ومع تواتر التحليلات الغربية عن قرب تحقُّق «سيناريو الكارثة»، عبر صدام عسكري تقليدي - وربّما نووي - وشيك بين الحلف وروسيا، جاءت تصريحات وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في شأن سحب الضمانات الأمنية المعطاة بمقتضى «اتفاق الحبوب»، لتُضاعف القلق في هذا الخصوص. وبالتوازي مع ذلك، عجّت وسائل إعلام روسية، في الآونة الأخيرة، بتقارير عن وجود مخاوف جدّية لدى الكرملين من إمكانية تكليف تركيا من قِبَل «الناتو»، وفي لحظة سياسية معيّنة، بمهامّ عسكرية في منطقة عمليات البحر الأسود، على مقربة من القواعد العسكرية الروسية، وفي مقابل الشريط الساحلي الأوكراني الذي يسيطر عليه الجيش الروسي، الأمر الذي سيضع الأخير في مواجهة عسكرية محتومة مع الجيش التركي، وسائر جيوش «الناتو»، وفق مندرجات «المادة 5» من ميثاق الحلف.
الاندفاعة التركية نحو إصلاح العلاقات مع الغرب جاءت مدفوعةً بهواجس شخصيّة وسياسية لدى إردوغان


تركيا أمام تحدّي «العصا والجزرة»
الثابت أن الاندفاعة التركية نحو إصلاح العلاقات مع الغرب، جاءت مدفوعةً بهواجس شخصية وسياسية لدى إردوغان، الغارق في أزماته الداخلية. إذ مع انقضاء الموسم الانتخابي، والذي يتطلّب، وفق ما درجت عليه العادة التركية، قدراً «مُدوزناً» من التصعيد مع عواصم الغرب، وبخاصة واشنطن، يجد زعيم «حزب العدالة والتنمية» الوقت ملائماً لعقد التفاهمات مع الأخيرة. ومن هذا المنطلق، تجزم صحيفة «نيويورك تايمز» بأن إردوغان «استنتج أنه لم يَعُد لديه الكثير ليكسبه من جرّاء الاستمرار في عرقلة (عضوية) السويد في الناتو، ولا سيما أن الفوائد الإضافية المحتملة للعرقلة لم تَعُد تستحقّ عناء التعامل مع الضغوط المصاحِبة لها». وبحسب الصحيفة الأميركية، فإن الانعطافة في موقف أنقرة تتماشى مع الأسلوب السياسي المعتاد لدى إردوغان، والمتمثّل في اعتماد سياسات يَتوقّع أن تُعزّز مكانته (داخلياً وخارجياً)، قبل أن يعمد إلى التخلّي عنها، بمجرّد أن تتلاشى قيمتها. ومن هنا، يعتقد محلّلون أن تراجع الزعيم التركي عن رفض عضوية السويد يعكس اعتقاده بأن سياسة حافة الهاوية التي انتهجها مع حلفائه «الناتويين»، قد أتاحت له تحصيل أكبر قدْر من المكاسب.
وحتى وقت قريب، كان الخبراء يرجّحون سيناريوَين اثنين بخصوص هذا الملفّ: يتمثّل أحدهما في استمرار العرقلة التركية إلى ما لا نهاية، بينما ينحو الثاني في اتّجاه إبطاء الأتراك مسار العضوية. ويعني الأول، انتظار نفاد صبر الغرب على أنقرة، وما قد يستتبعه من مخاطر قد تصل إلى حدّ فرض عقوبات اقتصادية أميركية قاسية ضدّها بموجب قانون «CAATSA»، وتفكيك عُرى الحلف العسكري القائم بين «الناتو» وتركيا، من دون استبعاد إمكانية طرد الأخيرة من الحلف بصورة نهائية. ولكن، بعد التراجع المفاجئ لإردوغان، عادت حظوظ السيناريو الثاني لترتفع، وخصوصاً أن الرئيس التركي تعهّد لحلفائه الغربيين بإحالة قراره على البرلمان المقرّر انعقاده في مهلة لا تقلّ عن ثلاثة أشهر، وهو ما ترك المسألة غير محسومة بصورة نهائية، أقلّه حتى شهر تشرين الأول المقبل. وممّا يعزّز الفرضية المتقدّمة، واحتمال حصول مفاجآت في اللحظة الأخيرة، مبادرة بايدن إلى رمي الكرة في ملعب الكونغرس، لبتّ مصير صفقة بيع طائرات «إف-16»، ومعدّات عسكرية أخرى لتركيا، في ظلّ ممانعة عدد من أعضائه للصفقة.

«حلم» إردوغان الأوروبي: السؤال المفتوح
أمّا بخصوص عودة إردوغان إلى المطالبة بالبتّ بملفّ ترشيح بلاده لعضوية الاتحاد الأوروبي، فإنّ جلّ ما تلقّاه الرجل هو وعود عامّة مبهمة بـ«إعادة الزخم» و«التفاعل الإيجابي» على مستوى العلاقة مع التكتّل. ووفق مصدر أوروبي مسؤول مطّلع على محادثات عقدها الرئيس التركي، قبل أيام، مع رئيس «المجلس الأوروبي»، شارل ميشيل، فقد تفاهم الرجلان على أكثر من قضيّة ذات اهتمام مشترك، كالهجرة غير الشرعية، ومسألة النازحين السوريين، فضلاً عن البحث في السماح للأتراك بالسفر إلى بلدان الاتحاد من دون تأشيرات. وفي هذا الصدد، تقلّل مصادر ديبلوماسية من جدوى التطلّعات التركية إلى العضوية في الاتحاد، معتبرة أنّ من الأجدى لأنقرة حصر رهاناتها ضمن هامش ضيّق يسمح لإردوغان بالترويج لنجاح سياسته الخارجية في تحسين العلاقة مع الاتحاد الأوروبي أمام جمهوره، وبما يضمن مصلحة الأوروبيين، ومن خلفهم الأميركيون، في إظهار تماسك «الناتو» ووحدته في وجه روسيا والصين، بالتوازي مع تطويع الدور التركي «المفتاحي» لخدمة أهداف الغرب.
في نهاية المطاف، وعلى رغم ما تحصّل عليه إردوغان من تعهّدات كلامية أوروبية وأميركية في قضيّتَين جوهريتَين لبلاده، هما ملفّ ترشّح تركيا لعضوية الاتحاد الأوروبي، ومستقبل التعاون العسكري بين واشنطن وأنقرة، فإنه في انتظار وفاء بروكسل وواشنطن بتعهّداتهما، سيبقى الرجل متحفّظاً إزاء خطواته المقبلة، على رغم تمسّكه بتوظيف مناخ عودة الثقة مع الولايات المتحدة، في استعادة ثقة المستثمرين الغربيين في الاقتصاد التركي، بعدما تراجعت في الأعوام الماضية، ليبقى واقع العلاقات التركية - الغربية مفتوحاً على مفاجآت أخرى في الأمد القريب. ولعلّ موعد اللقاء المتوقّع بين الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وإردوغان، في آب المقبل، على رغم عدم تأكيده من جانب الكرملين حتى الساعة، من شأنه أن يعطي إشارات حول مستقبل العلاقة السياسية والشخصية بين الرجلَين، علماً بأنّ لكلّ منهما الدوافع الكافية لصون سلامتها، وعلى رأسها تصادم مصالح بلديهما بمصالح الغرب في أكثر من بقعة من العالم.