تعليقاً على الأزمة اللبنانية الخليجية الراهنة، ينقل عن دبلوماسي غربي قوله استغراباً للحملة التحريضية التي يقوم بها الفريق الحريري لدى الرياض ضد اللبنانيين، بدءاً بمعاقبة الجيش اللبناني، أنه في 23 تشرين الأول 1983، وقع تفجيران ضخمان استهدفا تجمعين عسكريين، واحد أميركي والآخر فرنسي، في بيروت. الأول أوقع 241 جندياً من المارينز. والثاني 58 قتيلاً من الجنود الفرنسيين. يومها، حامت كل الشبهات حول جهات إسلامية في أنها المسؤولة عن العملين. في اليوم التالي، كما في الأسابيع والأعوام التالية، لم يسجل أن واشنطن عمدت إلى ترحيل أي شيعي من ديربورن في ديترويت. ولم يسجل أن باريس بادرت إلى ترحيل أي مسلم من ضواحيها... يتابع الراوي نقلاً عن الدبلوماسي نفسه، أنه قبل أسابيع، أقر الكونغرس الأميركي، وبالإجماع، قانوناً لملاحقة حزب الله عبر العالم، مالياً ومادياً وبشرياً وإعلاماً وتواصلاً. لكن في الوقت نفسه، بادرت الإدارة الأميركية إلى رفع مستوى دعمها للجيش اللبناني، لا إلى منع أي رصاصة عنه وهو في معركته ضد الإرهاب...
وتعليقاً على الأزمة نفسها، يروي أحد السياسيين المخضرمين أنه طيلة عقدين من الزمن تقريباً، بين الخمسينيات والستينيات، دخلت المملكة العربية السعودية في صراع سياسي مباشر، وعسكري بالواسطة، مع مصر الناصرية. صراع مرير استخدمت فيه كل وسائل الحرب وأدواتها وأسلحتها، وأولها الإعلام. حتى قال يومها الزعيم العربي الكبير جمال عبد الناصر في العائلة السعودية وحكامها، كلاماً غير مسبوق وغير مكرر طيلة نصف قرن. كلام تتندّر به وسائط الإعلام الاجتماعي اليوم، ولا ينقله أي سياسي عربي، عن اقتناع وعن حرص على مصلحة البلدان العربية وخير شعوبها... ويومها، وطيلة العقدين نفسيهما، شاءت الاصطفافات السياسية اللبنانية، أن تجعل زعماء السنية السياسية في بيروت إلى جانب القاهرة وهرمها الرابع. فيما شاءت عوامل عدة مقابلة، أن تجعل زعماء المارونية السياسية إلى جانب الرياض. لكن على مدى ذلك الصراع المرير، لم يسجل أن وقف زعيم لبناني ماروني أو مسيحي، لا علناً ولا سراً، لا تمهيداً ولا تحريضاً، ليطالب شريكاً سنياً له في الوطن باعتذار من السعودية. ولا سجل خصوصاً، أن سعى سياسي لبناني ماروني أو مسيحي، لدى الرياض، لترحيل أي مواطن لبناني مسلم يعمل في السعودية، ثأراً أو عقاباً أو كيداً أو انتقاماً...
وأيضاً وأيضاً، وتعليقاً على الأزمة الناشبة نفسها، يقرأ أحد العارفين بأسرار الأمن، أن استقالة الوزير أشرف ريفي المفاجئة قد لا تكون مجرد مصادفة ولا حدثاً معاكساً في مسار. فالرجل أدرى بمكة وشعابها. وليس غريباً عن أجواء التيار الأزرق ولا عن سقوفه خارجياً، ولا خصوصاً عن صفوفه شارعياً. يتابع العارف قراءته: كأن الرجل قد دفع إلى تلك الخطوة المدروسة والمقصودة. وكأن الهدف منها خلق عامل توتير إضافي في منطقة الشمال اللبناني. ودفع بعض الناس هناك، من أنصار اللواء ومريديه، ولو كرد فعل، وإن بمعزل عن إرادة ريفي أو علمه، إلى تكوين حالة أسيرية جديدة. حالة تبدأ كما بدأ الأسير في صيدا، رفعاً للخطاب السياسي والإعلامي. لتتحول تدريجياً بؤرة متطرفة حاضنة لأي مشروع مطلوب، ومولدة لأي تفجير موقوت...
ماذا تعني هذه المشاهد الثلاثة؟ خلاصتها المؤكدة أن ما يجري ليس مزحة ولا نزهة ولا احتكاكاً عابراً. ففيه حسابات خطيرة مركبة. أولها ما صار واضحاً من أن ثمة شركاء في الوطن يرفضون التوافق المسيحي الذي تكرس في معراب حول أسس الشراكة الميثاقية في البلد وأصولها. وثانيها أن البعض من السياسيين اللبنانيين، يتوهم أحياناً أن أفضل علاج لوجع الضرس، هو قطع الرأس. فإذا كان الاستحقاق البلدي أو النيابي الفرعي، هو الألم الموضعي الذي يعاني منه جماعة التيار الأزرق، فلا ضير عندهم من الذهاب إلى تفجير كبير، لوقف استحقاق أليم صغير. وثالثها طبعاً، أن البعض نفسه لا يزال يقارب قضية الوطن مهجوساً بقاعدة مفادها بسيط مبسط تبسيطي: إما أن نحكمه كله وحدنا، وإما فليحترق بكم وبنا.
يبقى حساب داخلي رابع، هو نوع من التكرار السمج الممجوج. أن يتم دفع الأمور نحو انفجار محدود، على طريقة من يقف على حافة مهدداً بالانتحار، استدراجاً لنخوة المنقذين واستدراراً لعواطف المحسنين. تهديد بالانفجار، من أجل إقناع من يقدر أو إجبار من هو مضطر، للمسارعة إلى فرض حل خارجي للأزمة الداخلية. على طريقة أيار 2008 لا غير. ووفق السيناريو نفسه، بما يحمل من انتهاك للدستور واستباحة للميثاق. لكن ما يجب قوله لهؤلاء، أن الظروف قد انقلبت جذرياً عما كانت عليه قبل ثمانية أعوام. وأقل التبدلات الحاصلة أن النار من حولنا صارت على جدران البلد. وأن لا خارج يسأل عنا ولا عاصمة مستعدة أو مؤهلة لرعاية اتفاقنا العشائري الموهوم. وفي ظروف كهذه، من يضمن أن مخططاً غبياً لاستنساخ 5 أيار، لا يتحول جنوناً مطلقاً إلى 13 نيسان؟!
على فكرة، هل تذكرون لبنان أولاً؟!