ثمة مجنون آخر في المنطقة، إنه حاكم تركيا! هكذا يخلص أحد الدبلوماسيين بعد قراءة مطولة لأحداث سوريا في الأسابيع والأشهر الأخيرة.
يروي الدبلوماسي المقيم في لندن أن تطورات كثيرة وخطيرة، كانت قد سبقت الاتفاق بين واشنطن وموسكو على وقف الأعمال العدائية في سوريا ومحاولة إعادة إطلاق مسار سياسي لحل سلمي في هذا البلد الذي يطفئ، بعد أقل من أسبوعين، الشمعة الخامسة لحربه التي أطفأت كل البلاد وأغرقتها في بحر من الدماء. يؤكد الدبلوماسي أن مهندسي الاتفاق، وزيري الخارجيتين الأميركية والروسية، جون كيري وسيرغي لافروف، لا تتملكهما أي أوهام. فهما يدركان أن خطوة نهاية شباط لا يمكن أن تمحو بكبسة زر الزلزال الذي اندلع في سوريا منذ 15 آذار 2011. غير أنهما يعرفان أيضاً، أكثر من سواهما، أن الهزات الارتدادية لذلك الزلزال باتت أخطر من أن يحتملها النظام الإقليمي المتداعي، كما النظام العالمي المفتوح على الفوضى.
ويضيف الدبلوماسي نفسه أن الخطة الأميركية الروسية تراهن على فتح ثلاثة خطوط متزامنة، يؤمل أن تتجه إلى اللقاء في نقطة الحل المرجو. خط أول يتمثل في صيغة متحركة لوقف للنار، قابل للتوسع في الجغرافيا، كما في نوعيته. بحيث يتمدد هذا القرار ليسير بسرعات مختلفة في أماكن مختلفة: وقف للأعمال الحربية في موقع. في مكان آخر يمكن أن يتطور إلى فتح نقاط تواصل بين مناطق الصراع. وفي أمكنة ثالثة يمكن أن تتم رعايته بمراقبين دوليين يحوّلون الهدنة إلى أرضية صالحة للمسارات الأخرى.
الخط الثاني المرجو هو خط المصالحات السورية الداخلية. وهو المسار الذي تعوّل واشنطن وموسكو بشكل أساسي على فريق المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا للتقدم فيه. ذلك أن ضمن فريق الدبلوماسي السويدي السابق أعضاء عرباً باتوا على علم ودراية بزواريب الحرب السورية وخارطة أمراء حربها وقطاع طرقها وزويعمي ميليشياتها، ممن هم خارج التنظيمات المعارضة الأساسية أو المجموعات الإرهابية الكبرى. ويعوّل القطبان على عمل ممكن مع هؤلاء، لاستمالتهم إلى عملية مصالحات متعددة، يمكن أن تشكل رافداً ثانياً لتوسيع رقعة الحل على الأرض. ويشير الدبلوماسي نفسه إلى أن هذه العملية بالذات، هي ما بدأ الرئيس السوري بشار الأسد بالتمهيد لها في كلام له قبل أيام، عن استعداده لمنح العفو عن هؤلاء المسلحين. فيما يعتقد الدبلوماسي أيضاً، أن مصادر تمويل خارجية ستكون جاهزة لتذليل تلك المصالحات، بحيث تستخدم فيها تكتيكات العصا والجزرة معاً.
يظل الخط الثالث متمثلاً بلقاءات جنيف المفترض أن تستأنف بعد نحو أسبوع. وهو المسار الذي يشكل التتويج الرسمي والنهائي لعملية الحل الممكنة أو المرجوة، إذا ما سارت كل الأمور وفق ما يشتهيه صانعو السلام السوري.
هل يمكن الركون إلى خطة المسارات الثلاثة تلك والاطمئنان إلى حتمية نجاحها؟ طبعاً لا، يسارع إلى التأكيد الدبلوماسي نفسه. لكنها كانت الإجراء الضروري والطارئ لتجنيب سوريا ومحيطها، وربما العالم، حرباً كبرى كانت قد بدأت مدافعها تذخر، كما يقول. ففي الأيام القليلة التي سبقت الاتفاق الأميركي ــــ الروسي، كان الأتراك قد دفعوا بالأمور إلى ما بعد حافة الهاوية العسكرية. يشرح الدبلوماسي نفسه أن التوتر التركي ــــ الروسي مزمن وتاريخي. ومعروف أنه ازداد بشكل ملحوظ بعد اندلاع الحرب السورية ووقوف كل من أنقره وموسكو على مقلبي خطوط تماسها. ثم بلغ التوتر مستوى الاستنفار العسكري المباشر بعد المشاركة الروسية الجوية في تلك الحرب، بدءاً من 30 أيلول الماضي. ولم تلبث الأمور أن لامست لحظة الضغط على أزرار الصواريخ في 24 تشرين الثاني الماضي، بعدما أقدمت أنقره على إسقاط طائرة روسية. فيما كان وزير خارجية أنقره الجديد يضرب بكفيه على طاولة فيينا، صارخاً أنا هنا، وسط تجاهل أميركي كامل له ولدوره ودولته. لكن كل ذلك ظل تحت نطاق الضبط والسيطرة، حتى مطلع هذا العام. إذ يكشف الدبلوماسي نفسه أن الأيام القليلة التي سبقت إعلان وقف الأعمال الحربية، كانت قد شهدت جهوزية كاملة من قبل تركيا وروسيا لإعلان الحرب الكاملة. إذ رصدت أجهزة المخابرات العسكرية الروسية، منتصف شباط، حشوداً للجيش التركي على خطوط الهجوم في اتجاه الأراضي السورية. وقد تم تصويرها ونقلها إلى الأميركيين. وبدا واضحاً لراعيي مؤتمر جنيف أن إردوغان قرر المغامرة. لا بل أكثر من ذلك، يكشف الدبلوماسي نفسه، أن موسكو لم تكن قد "بلعت" بعد حادثة وفاة الكولونيل إيجور سيرجون، رئيس جهاز المخابرات الروسية ونائب رئيس القوات الجوية. وهو الذي قضى في ظروف غامضة أواخر كانون الثاني الماضي. وفيما ذكرت صحف بريطانية أنه توفي بعد أسابيع على إرساله إلى دمشق في مهمة سرية، يكشف الدبلوماسي نفسه أن ثمة معلومات في لندن تشير إلى أن المسؤول العسكري والمخابراتي الروسي الكبير، قد توفي في بيروت. ولا يستبعد أن تكون وفاته نتيجة عملية أمنية مخابراتية معقدة، قد تكون شاركت فيها أكثر من جهة أمنية عربية وشرق أوسطية. الأمر الذي لا بد أن موسكو كشفت بعض خيوطه. وهو ما جعل القرار الروسي بالمواجهة مع تركيا حاسماً ونهائياً. وهو ما لمسته واشنطن أيضاً. فسارعت إلى فرض وتيرة مقاربتها للأزمة. والتي انتهت إلى وقف النار وانطلاق المسارات المذكورة...
في النهاية، يبدو المشهد الآن، مثل سباق بين النار التركية والإطفائي الأميركي. مع وجود قيصر بينهما، مستعد في كل لحظة لإخماد النار بالنيران!