منذ نحو سنة، عادت الحركات المطالبة بإقرار الزواج المدني في لبنان إلى الشارع، وذلك على خلفية حجز وزير الداخلية نهاد المشنوق عقود الزواج المدني المبرمة على الأراضي اللبنانية في أدراج وزارة الداخلية، ورفض توقيعها بحجة عدم قانونيتها. توالت الإعتصامات والتظاهرات بعدما أعلن الأخير أن "قبرص ليست بعيدة" للذين يرغبون بالزواج مدنياً، مصرّاً على عدم توقيع العقود الموجودة لديه. لم ينجح الشارع آنذاك بالضغط على المشنوق أو مجلس الوزراء من أجل تكريس هذا الحق. لذلك دخلت المعركة ملعب القضاء، إذ رُفعت دعاوى قضائية عدّة، منها الدعوى التي رفعها الثنائي دلال معوض وابراهيم معلوف ضد الدولة أمام قاضي الأمور المستعجلة في بيروت جاد معلوف، بهدف "إلزامها إجراء قيد نتيجة اعتبار موقفها المبدئي الرافض لقيد الزواج المدني تعديا واضحاً على حقوق المدعيين". أصدر معلوف حكماً في القضية في 21 آذار الجاري.لم يفرض القاضي معلوف على الدولة تسجيل عقد الزواج المدني للثنائي معوض ومعلوف، بل أعلن عدم اختصاص القضاء المستعجل لعدم ثبوت وجود تعدٍّ واضح على حقوق المدعيين جراء الجدل القانوني الدائر في هذه القضية، لكنه صاغ قراراً يعد وفق المدير التنفيذي لجمعية "المفكرة القانونية" المحامي نزار صاغية "مرجعاً قانونياً في الدعاوى التي ستُرفع لاحقاً، إذ نقض فيه الحجج كافة المقدمة من الدولة لرفض عقود الزواج المدني".
أثبت معلوف في قراره حيثيات قضائية أساسية في حكم هو الأول من نوعه في هذه القضية، ولم يكتفِ بإصدار حكم عابر بل حدد الطريق القضائية الواجب على مؤيدي هذه القضية اتباعها لتحقيق انتصار في القضاء، إذ دعاهم إلى التوجه نحو قضاة الأساس، مشيراً إلى أنّ القضاء وحده يمكنه حل النزاع القائم بين المواطنين والإدارة.
شطب القيد الطائفي خروج من الطائفة تجاه الإدارة

كرّس معلوف في قراره الحق في إبرام عقود الزواج المدني في لبنان عبر ثلاث نقاط أساسية تمكّن من إثباتها بتحليل قانوني متقن:
أولاً، رأى معلوف انه ممنوع المس بحق الزواج باعتباره حقاً اساسياً للإنسان والمبدأ في هذا الأمر هو الإباحة، مستنداً إلى الدستور والمعاهدات الدولية، التي تنص على انّ "حرية المعتقد التي تتفرع منها حرية اعتناق دين معين او عدم اعتناق اي دين، وحرية الإعلان عن اعتناق أي دين، كما والحق بالزواج، هي من الحقوق الاساسية للإنسان، وهي تستدعي الحماية من هذا المنطلق، كما يمكن الإستنتاج أن الحق بالزواج ليس بحاجة للإقرار بموجب القانون، ذلك أن الأصل هو الإباحة في ممارسة الحقوق الأساسية". يتوسّع معلوف في التحليل فيُظهر ما أقره المجلس الدستوري الفرنسي، الذي أكد انه "رغم أن المشرّع يبقى صاحب الحق بتحديد شروط الزواج وتقييده (...) إلا انه لا يمكنه وضع الشروط أو القيود غير المتوافقة مع الغاية المرجوة التي من شأنها المس بالحق بالزواج".
يستنتج القاضي أنّ إصدار المشرع تشريعات تنظّم الزواج أو تقيّده مقبول شرط عدم المس بالحق بالزواج، وكذلك اختيار المشرّع عدم التشريع حق له شرط ألا يمس حق الزواج. في هذا التحليل يدين القاضي الدولة بأنها تمنع حق الزواج عن الأفراد.
ثانياً، حسم القاضي معلوف للمرة الأولى في حكم قضائي الجدل الحاصل بين الدولة والناشطين حول فعالية شطب القيد الطائفي، إذ رأت الدولة في الدعوى أنّ "شطب القيد عن السجلات الرسمية ليس سوى كتمان للانتماء الى طائفة من الطوائف ولا يعدّ خروجاً عن الطائفة وليس من شأنه أن يجعل الشخص الذي شطب قيده الطائفي غير تابع لطائفة الحق العادي"، لكنّ الحكم أكّد أنّ شطب القيد الطائفي "لا يمكن اعتباره مجرد كتمان للإنتماء الطائفي بل هو فعلياً خروج من الطائفة تجاه الإدارة، دون الإنتماء إلى طائفة أخرى (...) ولا يمكن إلا اعتبار من لم يذكر قيده الطائفي في سجلات النفوس من ضمن فئة الأشخاص غير المنتمين إلى أي طائفة". يتابع معلوف ان "انطلاقاً من الإقرار بوجود أشخاص غير منتمين إلى طائفة لا بد من الإقرار بأن هؤلاء يتمتعون بالحقوق كافة التي يتمتع بها غيرهم من المواطنين المنتمين إلى طوائف". تصل مقاربة معلوف إلى حتمية حق هؤلاء بالزواج وفق القانون المدني كما ينص القرار 60 ل.ر، ليدحض حجة الدولة القائلة بعدم وجود قانون مدني يخضع له هؤلاء، وبالتالي عدم إمكانية إبرام عقود زواج مدني، مشيراً إلى أنه لا يمكن مجاراة الدولة في إدلاءاتها لأن هذا الإدلاء "يوازي القول بعدم امكانية تمتعهم بحقوقهم".
ثالثاً، انتقل معلوف أبعد من موضوع الدعوى. بحث في الفراغ التشريعي الناتج من عدم وجود قانون مدني، الذي تتذرّع به الإدارة، ليقر صحة اختيار الزوجين لقانون أجنبي، وعدم مخالفة هذا الأمر النظام العام في مسائل الأحوال الشخصية، لأن العقد المذكور لا يتعرض لأي من القوانين والحقوق المعترف بها للطوائف ولا يدخل أي تعديل عليها. ويذهب أبعد من ذلك، أنّ "الإقرار به يحافظ على النظام العام عبر التأكيد على مساواة الجميع أمام القانون وفي الحقوق". يرى معلوف أيضاً أنّ "الإقرار بصحة الزيجات المدنية المعقودة في الخارج ينطوي ضمناً وعن غير قصد، على تمييز بين المواطنين (...) ذلك أن إمكانية الزواج المدني تصبح عمليا متاحة فقط لمن تسمح له ظروفه المادية بالسفر".
بعد كل هذه النقاط يطرح القاضي سؤالاً لافتاً: من هي الجهة التي يمكنها تجاوز الفراغ التشريعي وإخضاع الزواج المدني المعقود في لبنان لقانون من اختيار المتعاقدين؟ ليجيب بأن القضاء لديه واجب الإجتهاد في هذا الأمر.
يقول صاغية "كان بإمكان القاضي معلوف أن يُصدر حكماً من صفحتين يعلن فيه عدم اختصاصه في الدعوى المقامة لديه، وبالتالي رد الدعوى ما يعني خسارة الثنائي وفوز الدولة، إلا أنّه قدّم إلينا كل الحجج القانونية التي تدعم القضية وطلب التوجه إلى قضاة الاساس وأخبرنا أن معركتنا في القضاء لإنجاز أكبر عدد من الأحكام المؤيدة للقضية. أعطى معلوف مشروعية للعمل القانوني الذي سيُنجز لاحقاً". يضيف صاغية أنّ "معلوف قدم تحليلا تقنيا وقانونيا لتبرير الزواج المدني من دون أن يفرضه، فلو فرضه لكانت الدولة استأنفت القرار ومن المحتمل أن يسقط، لكن في هذه الحالة الحكم باقٍ ويمكن الإستناد إليه كمرجع قضائي".