يواصل مصرف لبنان إجراءات لجم السيولة وخفض حجم النقد المعروض وامتصاصهما بالعملة المحلّية والعملات الأجنبية. تأتي هذه الإجراءات الانكماشية بعد فترة طويلة من سياسات الرفع المالي وزيادة المعروض من النقد، وهذا من شأنه أن يشكّل عاملاً إضافياً نحو المزيد من الانكماش الاقتصادي إلى جانب سياسات التقشّف الحكومية.منذ ظهور تداعيات الأزمة المالية في لبنان، اعتمد مصرف لبنان على إجراءات وهندسات مالية مختلفة تمحورت جميعها حول السعي إلى امتصاص العملة الصعبة ورفع الاحتياطي منها، في مقابل ضخّ السيولة بالعملة المحلّية. وفي النتيجة، ساهمت هذه الهندسات لغاية 2017 في خلق كمّية من النقد بالليرة اللبنانية في الأسواق، نظراً إلى آليّة عمل تلك الهندسات في ذلك الوقت، والتي قامت على استقبال التوظيفات بالعملة الصعبة في مقابل خلق فائض من النقد بالعملة المحلّية في يد المصارف. في الواقع، شكّلت تلك الإجراءات والهندسات إحدى أدوات خلق النقد، التي ساهمت في تلك الفترة في زيادة حجم النقد المعروض في الأسواق. وبمعزل عن تلك الهندسات والإجراءات الاستثنائية، كان التوسّع في سياسات الرفع المالي أبرز سمات السياسات المُعتمدة خلال السنوات التي سبقت تلك الفترة، وهو ما يظهر بوضوح في تطوّر حجم النقد المعروض في لبنان.


بين بداية 2011، ولغاية بداية 2016، السنة التي شهدت أولى الهندسات المالية الكبيرة، ارتفع حجم المستوى الثاني من النقد المعروض M2 من 37.12 مليار دولار إلى 52.24 مليار دولار خلال السنوات الخمس. مع العلم أن هذا المستوى من النقد المعروض (M2) يشمل كلّ النقد المتداول والودائع المتوافرة في الحسابات الجارية وحسابات الادّخار. ومع اعتماد مصرف لبنان على الهندسات المالية عام 2016، توسّع حجم النقد المعروض إلى 54.64 مليار دولار في نهاية 2016، وواصل ارتفاعه إلى 55.52 مليار دولار في آب/ أغسطس 2017.
وفي مقابل التوسّع في عمليّات خلق النقد وامتصاص العملة الصعبة، بدأ مصرف لبنان يلتفت إلى الأثر المعاكس الذي بدأت تلك العمليّات تخلقه. فالتوسّع في ضخّ السيولة بالعملة المحلّية سرعان ما بدأ يتحوّل إلى طلب على الدولار في السوق، وهو ما دفع مصرف لبنان منذ النصف الثاني من عام 2017 إلى التحوّل باتجاه «حبس» السيولة وامتصاصها بالعملة المحلّية أيضاً.
جرى ذلك - من جانب مصرف لبنان - عبر تعديل آليّات الإجراءات التي اعتمدها المصرف المركزي من خلال استهداف امتصاص سيولة المصارف، سواء بالعملة الصعبة والعملات المحلّية معاً. أمّا من جانب المصارف فقد تمّ الأمر عبر رفع الفوائد لاستقطاب الودائع بالليرة والدولار، وتقليص تسليفاتها بالعملتين، في مقابل توظيف هذه الأموال في المصرف المركزي. وسرعان ما انعكس كلّ ذلك على حجم النقد المعروض في الأسواق، الذي انخفض بشكل تدرّجي خلال السنتين الماضيتين من 55.35 مليار دولار في أيلول/ سبتمبر 2017 إلى 50.4 مليار دولار في شهر آذار/ مارس الماضي.
هذه الإجراءات الانكماشية، والتي تذهب باتجاه تجفيف السيولة في الأسواق بعد فترة طويلة من سياسات الرفع المالي والتوسّع في خلق النقد، شكّلت خلال الفترة الماضية أبرز العوامل الضاغطة على الاقتصاد المحلّي ونسبة النموّ فيه، إلى جانب عوامل عدّة طبعاً. وهكذا، بعد أن دفع اللبنانيون كلفة الهندسات والإجراءات الاستثنائية في فترة خلق النقد، وبعد أن تركت أثرها على شكل تضخّم بنسبة تزيد عن 6% في العام الماضي وارتفاع في توظيفات المصارف المُكلّفة لدى المصرف المركزي، يدفع الاقتصاد المحلّي ثمن الإجراءات المعاكسة التي تهدف إلى السيطرة على آثار المعالجات السابقة. وعملياً، من المتوقّع أن تبرز بشكل أوضح - على المدى الأطول - الآثار المرهقة لهذه المعالجات على مستوى الطلب في الأسواق والقدرة على تحقيق أي نموّ اقتصادي في الفترة المقبلة.
وفي كل الحالات، تظهر هذه التطوّرات الأخيرة، بعد آثار الإجراءات السابقة خلال فترة الهندسات المالية، أن السياسة النقدية في لبنان تُدار بمنطق المعالجات الآنية - والمتضاربة في كثير من الأحيان - التي تهدف إلى شراء الوقت والتعامل مع بعض آثار الأزمة لا أسبابها. وهو ما يعكس غياب أي نظرة متكاملة لمعالجة جوهر الأزمة القائم في السياسات المالية والنقدية التي سادت منذ التسعينيات.