نيويورك ـ نزار عبودعلى الرغم من أنّ الدعاء بطول العمر يرد على كل لسان، فإنّه ما من أحد يودّ أن يرى نفسه عاجزاً، طاعناً في السن، عبئاً على الآخرين في أواخر عمره. للأسف هذه هي الصورة التي بدأت الحداثة ترسم ملامحها في الكثير من المجتمعات، ولا سيّما في النصف الشمالي من الكرة الأرضية.
وهي ظاهرة تهدّد بالكثير من العواقب الوخيمة على مستقبل البشرية من النواحي الديموغرافية والاقتصادية والاجتماعية والصحية، وحتى الأمنية. مناطق شاسعة وقرى ومدن في أوروبا وروسيا باتت شبه مهجورة، أو خاوية من السكان، بسبب الهجرة من ناحية، وتدنّي نسبة الولادات من ناحية أخرى. هذا عدا الأسباب الأخرى، مثل الأمراض المقترنة بالسن المبكرة، كالإيدز وتفشّي المخدرات، أو الخدمة العسكرية في ساحات الحروب المستوطنة.
وحسب الأرقام الدولية، فإن نسبة المسنّين في أوروبا باتت تمثّل خُمس مجموع السكان. وهذا يعني أنّ أوروبا شاخت قبل العالم بأربعين عاماً. وهي أيضاً تزيد بنسبة 50 في المئة عن مثيلاتها في الدول النامية، حيث تصل في آسيا وأميركا اللاتينية وحوض الكاريبي إلى العُشر. أمّا في أفريقيا، فنسبة المسنّين لا تتعدى 1/19، ومعنى ذلك وتيرة متسارعة في تغيير التركيبة الإثنية للسكان من خلال التعويض من المجتمعات الأصغر سناً. أمر يجري بوضوح في المدن الأوروبية التي باتت ملوّنة أكثر من كونها بيضاء.
وفي نهاية العام الماضي بلغ عدد المسنّين عالمياً (الذين تجاوزوا الستين من العمر) 737 مليوناً. ويقيم ثلثا هذا العدد في الدول الصناعية الأكثر تقدّماً. وتتوقّع دائرة السكان في الأمم المتحدة أن يقفز العدد إلى ملياري نسمة بعد أربعين عاماً، حين يأخذ عدد سكان الأرض بالانكماش بدل الزيادة. حينها سيصبح عدد الشيوخ أكبر من عدد الأطفال والفتية ممّن تقل أعمارهم عن 14 عاماً.
ومع الشيخوخة تتدنّى الإنتاجية والاستهلاك، وهذا يتعارض جوهرياً مع نمط الاقتصاد القائم. والمشكلة الأعظم بالنسبة إلى الرأسمالية الغربية، أنّ بؤر الإنتاج ترحل بسرعة إلى حيث الكثافة السكانية الشابة في آسيا على وجه التحديد. أمّا في الدول الأكثر تقدماً صناعياً، فإنّ نسبة الذين تزيد أعمارهم على 80 عاماً، تمثّل 14 في المئة من مجموع الذين تجاوزوا الستين من العمر.
نسبة لها تبعاتها الاقتصادية الكبيرة على المجتمعات التي يتعين عليها رعاية المسنين لفترة أطول، مع توقّعات بارتفاعها خلال العقود الأربعة المقبلة لتصبح 20 في المئة.
ومع الرفاهية في نمط الحياة، والتقدم في العلاج الطبي، من المتوقع أيضاً أن يتضاعف عدد الذين تزيد أعمارهم على القرن بوتيرة أسرع من أيّ وقت مضى، فتصل عام 2050 إلى تسعة مثيلاتها حالياً، أي من 454 ألفاً حالياً إلى 4.1 ملايين نسمة بعد أربعين عاماً.
لقد بدأ العالم يشهد تنامي هذه الظاهرة بعد سنوات من نهاية الحرب العالمية الثانية. واستطاعت البشرية، مع وضع حد لحروب الإبادة الجماعية نسبياً منذ الخمسينيات، إطالة عمر الإنسان مدة بلغت 20 عاماً، ليصل متوسط العمر الحالي إلى 68 عاماً. وبمعدل الوفيات الحالي، بوسع الإنسان البالغ من العمر 60 عاماً توقّع أن يعيش لمدة 18 عاماً إضافية إذا كان ذكراً، و21 عاماً إذا كانت أنثى. وهنا لا ينبغي الاستهانة بجينات السيدات. صحيح أنّ المرأة تبدو أضعف من الرجل جسدياً، لكنها تعمّر أطول منه. هذا التقدير يختلف بالطبع من منطقة إلى أخرى، تبعاً للظروف الصحية والبيئية والمعيشية والأمنية والاجتماعية، فضلاً عن الاقتصادية. ومعنى ذلك أنّ عدد المسنين من الإناث سيبقى أعلى بكثير من الذكور. وهذه النسبة ستتفاقم خلال العقود المقبلة، لينخفض عدد المسنين الذكور من 83 لكل مئة امرأة حالياً، إلى 60 لكل مئة بعد أربعين عاماً. ولهذه الظاهرة تبعات اقتصادية. فالفتاة التي تتزوج في سن أبكر من الفتى مرشّحة لأن تستحوذ على ثروة العائلة لفترة أطول في أواخر العمر. غير أن معظم الرجال يُتوفَّون متزوجين بينما غالبية النساء يمُتن أرامل.
ومن العوامل التي ستحدّد مصير الشعوب في المستقبل المنظور، مسألة عدد العاملين مقابل المتقاعدين. في الخمسينيّات كان عدد الذين تقل أعمارهم عن 46 عاماً 12 شخصاً، لتنخفض حالياً بنسبة الربع فتصبح 9 أشخاص. وهذا العدد مرشّح لأن يتدنّى إلى 4 فقط في 2050.
وممّا لا شك فيه أن نسبة القادرين على العمل إلى نسبة المتقاعدين تتحكّم كثيراً في نظام الأمن الاجتماعي من رواتب التقاعد إلى خدمات الصحة العامة، فضلاً عن الحماية والرعاية الأمنية والاجتماعية. لذا لجأت العديد من الدول الغربية أخيراً إلى رفع سن التقاعد إلى حدود لم تُعرف من قبل، فبلغت في بعضها 67 عاماً بعدما كانت تراوح ما بين 45 و60 عاماً قبل عقود قليلة.
بهذا المعنى تكون البشرية تُجهِز على نفسها من دون حروب إبادة جماعية، فقط عن طريق وقف مجرى الحياة والتلاعب بالنمو الطبيعي للسكان دون التحسّب لمخاطر الأوبئة التي تفتك أحياناً بعشرات الملايين. ولا شك أنّ لنمط حياة الأبوين العاملين دوراً سلبيّاً خطيراً في توفير البيئة المناسبة لإنجاب الأطفال وتربيتهم. كما أنّ تقاعس المجتمعات عن تأمين السكن والتعليم المجاني المناسب يضعف الاستعداد للإنجاب التعويضي عن النقص المحدق بعدد السكان وشيخوخة المجتمعات.
بهذه الصورة بات من الضروري إعادة النظر في المفاهيم التي راجت في النصف الثاني من القرن العشرين، والتي تحذّر جميعها من القنبلة السكانية، ومخاطر ذلك على قدرة الطبيعة على تأمين الاحتياجات. فعندما ظهرت تلك النظريات كانت الهند والصين تعانيان مجاعات لم تعد قائمة حالياً. بل إن عدد سكان هاتين الدولتين تحديداً تضاعف أكثر من مرّة، وفي المقابل، تحسّنت الأوضاع المعيشية للسكان مع تحسن إدارة الموارد الطبيعية ومستوى التعليم ونوعية الإنتاج. بينما يلاحَظ أنّ دولاً قليلة السكان مثل نيوزيلندا (4 ملايين نسمة) مثلاً تعاني بطالة وكساداً، فيما يفترض أن ينعم سكانها بالرخاء والوفرة. ولا تبدو كندا الضئيلة السكان أيضاً بمنأى عن تداعيات أزمة البطالة رغم ثرواتها الطبيعية الطائلة. ثروات لا يواكبها نمو سكاني مناسب يجعل إنتاجها منافساً في الأسواق.
هذا الخلل الديموغرافي الخطير سيترك آثاراً على موازين مدفوعات الدول في وقت قريب نسبياً، وقد يسبّب انتكاسات عالمية ذات طابع تسونامي. في الولايات المتحدة مثلاً، تزيد ديون الدولة للمتقاعدين على مئة تريليون دولار. وإذا لم يكن هناك دفق متناسب من المساهمات في نظام الضمان الاجتماعي، ومتكافئ مع نسبة الإنفاق على المتقاعدين من رواتب ورعاية، فإن الدولة تصبح مهدّدة بالإفلاس التام.