تطورات جدلية العلاقة بين الدين والمجتمع والدولة تمرّ بهدوء، لكن من شأنها التأثير في مصالحة «تركيا الجديدة» مع نفسها
أرنست خوري
ربّما شعرت مديريّة الشؤون الدينية في الجمهورية التركية، بنوعٍ من تهميش الذات بعد غيابها الإرادي عن مؤتمر ماردين الذي أعلن انتهاء الفتوى الجهادية عن «دار الحرب ودار الإسلام» لأهم مراجع المسلمين الأصوليين، ابن تيميّة.
وفي تبريرها لغيابها عن فعاليات المؤتمر الديني العالمي ذاك، أظهرت المديرية نوعاً من «السذاجة»، عندما سخرت من مناقشة فتوى يعود تاريخها للقرن الرابع عشر، رغم يقينها بأنّها تمثّل مرجعاً لتيار ضخم ليست ترجمته الوحيدة تنظيم «القاعدة»، ويمثّل تهديداً لأمن دول ليست تركيا بمنأًى عنه.
ربّما لهذه الأسباب، شعرت المديرية بضرورة فعل شيء ما لاستعادة المبادرة في أي أمر يتعلق بالدين الاسلامي في جمهورية علمانية لا تشبه أي علمانية أخرى. ففي يوم واحد، قرّرت تكريس العام الجاري، عاماً للقرآن، كما أطلقت حملة حكومية دينية ـــــ اجتماعية لدخول منازل الأتراك، وإقناعهم بأنّ العنف الأسري مناقض للإسلام، بالتالي عليهم الابتعاد عن تلك الرذيلة، لعلّّ تركيا تقترب من المعايير الأوروبية لاتفاقية كوبنهاغن. هي نوع من الحملات التي لم يكن ممكناً القيام بها في زمن حكم أصحاب النظرة الكمالية للعلمانية، بما أنّ هذا النوع من النشاطات يعترف بالمكوّن الثقافي الديني للشعب التركي، ويتعاطى معه انطلاقاً من حقيقة أنّ الدين هو القيمة الأسمى في الحياة بالنسبة لـ62 في المئة من الأتراك، بينما العلمانية تحتل المرتبة الثانية بفرق شاسع، إذ إنّ 16 في المئة فقط يعتبرونها القيمة الأعلى في حياتهم.
وعن «2010 عام القرآن»، قررت مديرية الشؤون الدينية تنظيم مجموعة ورش عمل ومعارض وحلقات تثقيف ومسابقات وبرامج إذاعية وتلفزيونية بهدف التعريف بالقرآن وبقيمه، وتصحيح الصور المغلوطة عنه في عقول البعض، وتأكيد أممية الرسائل التي يحتويها، وفق شرح رئيس مديرية الشؤون علي برداق أوغلو.
نشاطات لا تهدف حقيقةً إلى التعريف بالقرآن في بلد الثمانين مليون مسلم، بل إلى تقديم النسخة التي تودّ النخبة الحاكمة في تركيا إيصالها عن القرآن، بما أنّ الاجتهادات والتفسيرات المختلفة له تبقى مفتوحة، رغم أنّ باب الاجتهاد أُقفل من بعد الأئمة الأربعة. وربما لهذا السبب، لا يُرجَّح أن تواجه الحملة معارضة شرسة من النخبة العلمانيّة، لعلمها أنّ «النزعة السلميّة» و«الحضارية» التي تحاول الأجهزة الحكومية بثها عن الدين الاسلامي، ستكون موضع ترحيب لدى الأوروبيين.
وقد يكون المشروع الحكومي الثاني، القاضي بإدخال أئمة المساجد إلى منازل الأتراك لإقناعهم بأنّ العنف المنزلي منافٍ لدينهم وعقيدتهم، موضع خشية أكبر بالنسبة للمتوجّسين من إسلامية الحزب الحاكم. وكانت مديرية الشؤون الدينية قد وقّعت اتفاقاً بهذا المعنى، يوم الاثنين، مع كل من وزيرة شؤون المرأة والعائلة سلمى كوف، ووزير الدولة فاروق جليك، يقضي بتدريب أئمّة للتعامل مع العنف الأسري الموجَّه ضد المرأة. وقد يربط البعض بين توقيع هذا الاتفاق، وطبيعة التعديل الدستوري الذي تجري حوله المساومات تحت قبّة البرلمان، بما أنّ حكومة رجب طيب أردوغان نفسها وصفت التعديل الذي تقدمت به أواخر الشهر الماضي بـ«الدستور المتحيّز نسوياً»، وذلك مغازلةً للعيون الأوروبية الراصدة بدقّة لأي نبأ يُعلَن عنه حول معدّلات الاعتداء على التركيات والاغتصاب والتحرّش الجنسي وجرائم الشرف وغياب المساواة الجندرية، في المنزل وفي العمل، بما أن المرأة ليست حاضرة إلا بنسبة 9.1 في المئة في سوق العمل وفق الأمم المتحدة.
كذلك قد يرى البعض في إقحام موظّفي مديرية الشؤون الدينية في مسائل اجتماعية إلى هذه الدرجة، نجاحاً لعدد من منظمات المجتمع المدني المهتمة بهذا الموضوع. ونال المشروع موافقة برنامج الأمم المتحدة للتنمية السكانية (unfpa)، الذي سيسهم في تدريب قوات الشرطة المكلفين التدخل في الشؤون الأسرية، كذلك تأهيل القضاة وموظفي القطاع الصحي المسؤولين عن كل ما يتعلق بهذا الملف.