خسائر اقتصاديّة ضخمة وتهديد للكائنات الحيّةباريس ــ بسّام الطيارة
للمرة الأولى منذ بدء الحديث عن «الشمولية»، يكتشف العالم أن الطبيعة يمكنها أن تكبّل عجلة الحياة في «العالم ـــ القرية» بشكل يتجاوز الحدود والقارات. عدد قليل من الناس يستطيعون أن يحدّدوا موقع أيسلندا على خريطة العالم، إلا أن اندفاع الصهارة من قلب بركان إيفيافيول (١٢٠٠ درجة مئوية) واصطدامها بالكتل الجليدية ولّد سحاباً اندفع في سماء العالم الغربي وقطع شرايين المواصلات بشكل لم يشهده التاريخ مسبقاً، إذ بلغ عدد الرحلات الجوية التي ألغيت خلال عطلة نهاية الأسبوع ١٧ ألف رحلة.
وسارع المعلقون إلى إجراء مقارنة بين السحاب البركاني وبين «حدث ٩/١١»، حين أوقف الطيران كلّيّاً بين أوروبا والولايات المتحدة. إلا أن كل الأرقام تشير إلى أن نتائج «ثورة البركان التي يصعب النطق باسمه»، كما قال معلق تلفزيوني، سوف تتجاوز بمرات نتائج أحداث ٢٠٠١. وحتى الآن فإن الخسائر المباشرة تقارب ٣٥٠ مليون يورو يومياً، وهي فقط على مستوى صناعة الطيران والسفر. إلا أن

الخسائر المباشرة على مستوى الطيران تقارب ٣٥٠ مليون يورو يومياً

أحد الخبراء يشير إلى أن هذا هو «الجزء البارز من جبل جليد الخسائر»، التي لن يكون من الممكن محوها قبل سنين بسبب «الكم التراكمي» للارتباط العضوي بين الاقتصادات في العالم، وخصوصاً في مرحلة النقاهة المالية التي يعيشها العالم اليوم.
وسلطت «كارثة السحاب البركاني» على ترابط المجتمعات بعضها ببعض، ولكن أيضاً على أمور تجاوزها العقل البشري بسبب «نمط السهولة» التي أدخلها التطور السريع للمواصلات في سبل الحياة اليومية.
فالسياسة اليوم باتت مرتبطة بسهولة الانتقال من بلد إلى آخر، وبعدما كان معظم زعماء العالم قد قرروا المشاركة في جنازة الرئيس البولندي ليخ كاتشينسكي وزوجته، جاءت إعلانات التراجع عن السفر تتابعاً لتترك البولنديين وحيدين في عزائهم. فلا الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي سوف يحضر المراسم ولا الرئيس الأميركي باراك أوباما ولا المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، إلى جانب عدد كبير من المسؤولين، الذين منعهم «انفجار الطبيعة» من ركوب الطائرة والتوجه إلى كراكوفا.
وسوف تفتح هذه الكارثة ملف «السياسة البيئية»، التي تهم المواطن الأوروبي بدرجة أولى، مثل إعادة النظر بسياسة «الاعتماد المكثف على النقل الجوي»، وهو ما كانت تنتقده الجمعيات البيئية الناشطة التي قدمت دراسات عديدة عن دور الطيران المكثف، وخصوصاً فوق المدن في ارتفاع نسب الاحتباس الحراري، وطالبت مراراً بتشجيع النقل عبر السكك الحديد الكهربائية التي تراعي الظروف البيئية من ناحية، وتحافظ على توازن الميزان الحراري للكرة الأرضية.
كذلك فإن ملفات علمية عديدة يمكن أن تبرز بعد الأسبوع الأسود الذي شهدته أوروبا، مثل السبل لمداراة هذه العوامل، ولا سيما بعدما نُقل عن العالم الجيوفيزيائي سيغرون هرينسدوتير من جامعة إيسلندا القول إنه «يمكن حصول تغيير سريع في قوة ثوران البركان»، وبالتالي لم يستبعد العالم احتمال حصول انفجارات أخرى داخل البركان.
ومن المعروف أنه يمكن للرماد البركاني أن يحد من الرؤية وأن يضر بمحركات الطائرات، حتى وإن كانت تحلق على ارتفاعات عالية جداً. وقد أعلن وزير البيئة الفرنسي جان لوي بورلو، أول من أمس، إطلاق دراسة ستوضع على مستوى أوروبي لكشف التأثيرات المحتملة للسحب الرمادية البركانية على محركات الطائرات ولبحث الوسائل الكفيلة بتحسين المعلومات حول الرابط بين بث الجزيئات الدخانية وكثافتها وطاقة محركات الطائرات.
ونقلت مصادر عن الوزير قوله «نحن في مواجهة شيء ليس تحت السيطرة بالشكل الكافي»، مع تشديد على «استئناف حركة الملاحة الجوية»، وأن العمل يجري للتوفيق بين «ضرورة الاحتراز والقدرة على الطيران».
بالطبع من البارز أن إعادة سير الملاحة العالمية مهم جداً للحكومات والمسؤولين، إلا أن ما لا يذكره البعض هو التأثير الكبير الذي يمكن أن تتركه الغازات المشبعة بالفلور على الكائنات الحية. ويمكن التذكير بانفجار البركان «لاكي» في إيسلندا أيضاً عام ١٧٨٣، الذي أدى إلى نفوق ماشية الجزيرة عن بكرة أبيها بسبب تنشقها لغاز الفلور، بينما قضي على نحو ٣٠٠٠ نسمة بسبب المجاعة التي سبّبتها «أمطار الأسيد» وتأثيرها على التربة.

الغبار البركاني يؤثر على البيئة والزراعة والماشية وحياة الإنسان

وحتى الآن، تبدو السلطات الأوروبية مهتمة بتسهيل حركة الطيران من دون الالتفات إلى التأثيرات التي من الممكن أن تتركها غيوم الغبار البركاني على البيئة وانعكاساتها على الزراعة والمزروعات وحياة الإنسان. فحسب الخبراء، الذين اتصلت بهم «الأخبار»، فإن «الخطر ليس داهماً». ويقول الناطق الرسمي باسم منظمة الصحة العالمية، دانيال إبستاين، إن «مزيج الغاز وغبار الرماد لم يخلق حتى الآن تلوّثاً يمكن أن يؤثر على الهواء الذي يتنشّقه الإنسان»، ذلك أن الغيوم «معلقة» على ارتفاع عال جداً. إلا أن الجميع يحذر بأنه حالما تبدأ هذه الغيوم بالانحدار نحو ارتفاعات منخفضة علينا أن «نقلق بسبب ما يمكن أن تسببه من صعوبة تنفس» لدى البعض. وتشير آخر الإرشادات الجوية إلى أن الغيوم «تتجه جنوباً وشرقاً» لتصل إلى جبال الألب، ومن ثم لتجانب شمال البحر الأبيض المتوسط قبل أن «يساهم انخفاض الحرارة» بتسريع حركتها انخفاضاً نحو الشرق، فمن المحتمل أن تصل إلى جنوب البحر الأبيض المتوسط والمدن التي تلامس شواطئه في مطلع الأسبوع المقبل. إلا أنها حسب البعض لن تكون معوّقة للطيران، لكنها ستكون معوّقة للتنفس وتسبب هطول أمطار أسيدية تترك آثاراً عميقة على التربة والمزروعات.


«لاكي» وماري أنطوانيتويحوم فوق البركان سؤال «هل سبّب انفجار البركان لاكي تسريع الثورة الفرنسية عام ١٧٨٩»؟ إذ إنه عندما انفجر في عام ١٧٨٣ أرسل، كما يحدث اليوم، «موجة غيوم من الغبار البركاني» نجم عنها إفقار التربة وإفسادها، ما أدى إلى تراجع الزراعة بسبب قحالة الأرض. ويذكر التاريخ أن ماري أنطوانيت زوجة الملك لويس السادس عشر، الذي ذهبت مقصلة الثورة برأسه ورأسها، أجابت المحيطين بها عندما أشاروا لها إلى أن الجوع ينخر بشعبها، «إذا لم يوجد خبز فليأكلوا بسكويت».