كلّما توسّع النفوذ التركي الخارجي في المنطقة والعالم، ازدادت الأسئلة الداخلية المحرجة بالنسبة إلى حكّام أنقرة: لماذا لا تتعامل أنقرة مثلما تدعم تعاطي ساسة أفغانستان مع حركة «طالبان»؟
أرنست خوري
رعت تركيا، الثلاثاء والأربعاء الماضيين، مؤتمراً دولياً حول أفغانستان، كان أشبه بـ«بروفا» لمؤتمر لندن، ودعمت مشروعاً فتح الباب أمام «معتدلي» حركة «طالبان» للمشاركة في «العملية السياسية» الأفغانيّة من بوابة انتخابات أيلول المقبل، فكان على رئيس دبلوماسيتها مواجهة السؤال الصعب: كيف لحكام أنقرة أن يدعموا «استيعاب» هذه «الحركة الظلامية» في أفغانستان، وأن يرفضوا حتى الحديث عن مفاوضة «حزب العمال الكردستاني»؟ أليس من تناقض بين الموقفين؟ أليس الحزب التركي أولى بالمعروف؟
سؤال طُرح على أحمد داوود أوغلو من على طائرته التي أقلّته إلى العاصمة البريطانية لندن، فكان عليه استحضار كامل براعته الدبلوماسية، ليبرّر رفض المقارنة بين أفغانستان وتركيا، وبين «طالبان» و«العمال الكردستاني». رأى ببساطة أنّ «المقارنة لا تجوز»، فتركيا «ليست دولة خارجة من حرب أهلية دامت ثلاثين عاماً»، كما هي الحال في أفغانستان، كما أنّها «دولة تتميز عن كل الدول المحيطة بها، بديموقراطيتها التي تؤمّن لها بنى تُبقي جميع الصراعات والخلافات داخل أطر النظام السياسي».
ولتبيان الفارق بين الوضع في كلّ من دولته وأفغانستان، ذكّر داوود أوغلو بأنّ «كل زاوية في تركيا آمنة وتخضع للنظام العام، وكل من يريد المشاركة في العمل السياسي يستطيع ذلك عندنا»، في إشارة إلى وجود نواب أكراد في البرلمان التركي.
رفض داوود أوغلو مقارنة تركيا بأفغانستان و«الكردستاني» بـ«طالبان»
كلام نقلته صحيفة «حرييت» على صفحتها الأولى عن رئيس الدبلوماسية التركية، ويفتح مجالاً واسعاً أمام تعليقات وانتقادات، مفادها بأنّ داوود أوغلو يبرّر «ازدواجية في المعايير» بين دبلوماسية تركيا في الخارج، وما يتمّ ممارسته في الداخل. قال إنّ تركيا ليست دولة خارجة من حرب أهليّة عمرها 30 سنة. لكن، أليس الصراع العسكري بين الحكومات المتعاقبة والحركة الكردية، منذ تأسيس الجمهورية، وخصوصاً منذ سبعينيات القرن الماضي، والتي يُقدَّر عدد قتلاها بنحو 40 ألف شخص، حرباً أهلية بكل معنى الكلمة؟ فقد أثبتت التجربة أنّ أكراد تركيا، الذين يمثّلون ما يقارب من 20 في المئة من مجموع المواطنين، لا يزالون يصطفّون بغالبية كبيرة وراء حزبهم الأقوى «العمال الكردستاني» والأحزاب السلمية التي تدور في فلكه. وعن هذا الموضوع، ينتقد كثيرون كلام داوود أوغلو عن وجود برلمانيين أكراد في مجلس النوّاب، لأنّه قال نصف العبارة ولم يوضح أنّ هؤلاء النواب، الذين انتُزعت النيابة عن عدد منهم، موجودون في «الجمعية الوطنية التركية الكبرى» بصفتهم مستقلّين وليس كحزبيّين. كما أنّه لم يشر إلى أنّ أحزاب الأكراد تتعرّض دورياً لحملات حظر قانونية، آخرها كان حلّ «المجتمع الديموقراطي» وتأسيس حزب «السلام والديموقراطية» على أنقاضه، وهو الذي يواجه بدوره، ومنذ الساعات الأولى لتأسيسه، حملات اعتقالات لرؤساء بلديات ونواب وأنصار ومسؤولين.
الدور التركي في أفغانستان ليس جديداً، حتى إنه قد يكون الأهم من ناحية تصدّر «المعركة المدنية» على قاعدة أن «الحل العسكري لا يكفي وحده» على حد تعبير الرئيس عبد الله غول ووزيره داوود أوغلو. عبارة سبق أن قالاها عن القضية الكردية في تركيا، إلا أنّ الأكراد يرون أنها لا تزال غير مطبّقة، إذ لم تعرف تركيا عفواً جماعياً عن عناصر وقادة «الكردستاني»، ولم تقدم أنقرة على «خطوة كبيرة» لإظهار «حسن نيّتها» كالإفراج عن عبد الله أوجلان مثلاً، بينما دعمت الرئيس الأفغاني حميد قرضاي وربما أقنعته بأن يصف «معتدلي طالبان» بـ«أبناء الوطن الأفغاني»، وبأن يتبنّى مشروعاً لتقديم إغراءات لهم ليتخلّوا عن سلاحهم وينخرطوا بالكامل في العملية السياسية.
عندما يطبّق حكام أنقرة في بلدهم ما يقنعون الغير بتطبيقه في الأزمات الخارجية، تُحَلّ أزمات تركية كثيرة.