كان إعلان طهران قبل شهرين عن منشأة نووية جديدة بالقرب من مدينة قم، سبباً لأزمة أخرى مع الغرب، الذي ردّ بتقرير صدر عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية انتقد إيران بسبب «نشاطها النووي السري». لكن الأخيرة، التي اعتمدت دائماً منطق التحدّي في وجه مطالب الدول الكبرى، ردّت بإعلان عزمها بناء عشر محطات جديدة لتخصيب اليورانيوم
معمر عطوي
لن تكون المحطات النووية الجديدة، التي أعلنت طهران نيّتها البدء بإنشائها وتشكك الغرب بقدرتها على تنفيذها، سوى امتداد لمشروع نووي متكامل لديه العديد من المحطات والمفاعلات، السريّة والعلنية، المنتشرة على أراضي الجمهورية الشاسعة (أكثر من مليون وستمئة ألف كيلومتر مربع). فالبرنامج النووي الإيراني بدأ بالفعل منذ خمسينيات القرن الماضي، في عهد الشاه محمد رضا بهلوي، وكانت آنذاك الولايات المتحدة، حليفة للنظام الملكي، فدعمت المشروع وساهمت إلى جانب حكومات أوروبا الغربية في تنفيذه.
لكن الثورة الإسلامية، التي انتصرت على النظام الشاهنشاهي في عام 1979، أحدثت قطيعة مع الغرب، ما أدى إلى إيقاف البرنامج بعد الثورة مؤقتاً، ليعود متجليّاً من خلال العديد من المواقع والمحطات والمناجم والمفاعلات.
وفي الوقت الذي يتهم فيه الغرب طهران بالعمل على صناعة قنبلة ذرية وفرض عقوبات دولية عليها، تبرّر إيران عمليات تخصيب اليورانيوم بسعيها إلى تطوير القدرة على إنتاج الطاقة النووية، لتوليد الكهرباء والحصول على 6000 ميغاواط من هذه الطاقة الحيوية بدءاً من سنة 2010. لذلك، تسعى الجمهورية الإسلاميّة إلى إنتاج ما بين 250 و300 طن من الوقود النووي كل عام.
تسعى إيران إلى إنتاج ما بين 250 و300 طن من الوقود النووي كل عام
لعل أهم المفاعلات النووية العاملة اليوم على الأراضي الإيرانية، والتي تتعرض لتهديد إسرائيلي متواصل بقصفها، هو مفاعل «ناتنز» وسط البلاد. هذه المنشأة تُعدّ الرئيسية لتخصيب اليورانيوم، والنقطة المحورية في النزاع النووي مع الغرب. بدأ التخصيب في المصنع منذ عام 2006. ووفق تقرير صادر عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية في تموز الماضي، فإن هذا المفاعل يحتوي على ما يقارب 4600 جهاز طرد مركزي، تغذّى باليورانيوم، فيما 3700 أخرى جرى تثبيتها، لكنها لم توضع موضع التشغيل حتى الآن. ومن ناحية قانونية دولية، فإن الموقع خاضع لمراقبة وكالة الطاقة، التي ترصده على مدار الساعة من خلال آلات تصوير خاصة بذلك.
في المرتبة الثانية، يأتي مفاعل «بوشهر» الكهروذري، جنوب غرب إيران، على الساحل المقابل لدول الخليج العربية. و«بوشهر» هو أول مفاعل نووي إيراني في عهد الثورة الإسلامية، يُبنى بمساعدة روسيا منذ عام 1995. غير أنه محطة قديمة، بدأت شركة «سيمنس» الألمانية العمل بها مع بداية سبعينيات القرن الماضي، في عهد الشاه. وتبلغ قوة هذا المفاعل 1000 ميغاوات، وهو يعمل بالماء الخفيف. وسيستخدم المفاعل اليورانيوم المخصب المستورد من روسيا (وصلت الدفعات الثماني التي كان متفقاً عليها مع موسكو)، كوقود لتوليد الكهرباء، ولا سيما أن كل ما تملكه إيران من «الكعكة الصفراء»، أي اليورانيوم النقي، لا يزيد على 825 طناً. هذه الكمية لا تكفي لسد حاجة «بوشهر»، إلا لمدة 7 سنوات.
ويبدو أن هذا المفاعل، أصبح رهينة للعبة الكر والفر بين موسكو وطهران، وخصوصاً أن الأولى تتعرّض لضغوط كبيرة من واشنطن وتل أبيب، لوقف العمل بهذا المفاعل. فبينما كان موعد تسليمه مرجّحاً هذا العام، لا تزال الشركة الروسية المتعهدة للمشروع «آتوم ستروي اكسبورت»، تماطل في إنهاء العمل به، تارة بحجة عدم دفع طهران للمبالغ اللازمة في الوقت المحدد، الأمر الذي ينفيه الإيرانيون دائماً. وتارة بحجة عدم جهوزيته وعدم توافر الشروط المطلوبة لتشغيله. لكن على ما يبدو، وبعد مشاركة روسيا في تقرير إدانة طهران الذي صدر عن وكالة الطاقة أخيراً، يحاول الروس ترطيب الأجواء مع شريكتهم الاقتصادية الكبرى طهران. هذا ما عبّر عنه وزير الطاقة الروسي، سيرغي شماتكو، أثناء زيارته الأخيرة إلى العاصمة الإيرانية، أواخر الشهر الماضي، بقوله إن محطة بوشهر ستكتمل قريباً، وإعلان مسؤولين روس أن موسكو تعتزم تشغيل هذا المفاعل في آذار المقبل.
ويعمل مفاعل بوشهر، تحت إشراف وكالة الطاقة في كل أطواره، وهو يلبي بصورة تامة التشريعات والقواعد الدولية السارية ونظام منع الانتشار.
في المستوى الثالث، يأتي مفاعل «آراك» وسط إيران. ويقع في منطقة خونداب على بعد 190 كيلومتراً جنوب غرب العاصمة طهران. وقد أعلن الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد، في عام 2006، أن هذا المفاعل أصبح جاهزاً لإنتاج الماء الثقيل. في آب الماضي، وافقت إيران للمرة الأولى على السماح لمفتشي وكالة الطاقة بدخول المفاعل الذي تبلغ طاقته 40 ميغاوات. وتقول طهران إن التخصيب في المفاعل سيستخدم لإنتاج مواد مشعة للاستخدامات الطبية والصناعية السلمية. لكن مراقبين دوليين يرون أنه يتناسب مع إنتاج البلوتونيوم المنضّب الذي يدخل في صنع الأسلحة النووية.
ومن المحطات النووية المهمة جداً أيضاً، مصنع «أصفهان» (وسط). ويقع على بعد 325 كيلومتراً جنوب شرق طهران. أعلنه الرئيس محمود أحمدي نجاد منذ أشهر، أول مصنع لإنتاج الوقود النووي. وفيه ينقّى خام اليورانيوم (الكعكة الصفراء) من الشوائب، من أجل تحويله كيميائياً إلى غاز «سداسي فلورايد اليورانيوم»؛ المادة التي تضخّ في أجهزة الطرد المركزي لتخصيب اليورانيوم. وعلى غرار منشأة «ناتنز»، يتألف المركز من منشآت متنوعة محصّنة معظمها تحت الأرض. وذكر مدير المصنع الجديد، فجيح الله أسدي، أن المصنع هو إنتاج إيراني مئة في المئة، وأنه سينتج ماءً ثقيلاً لمفاعل آراك.
تتحدث المعارضة في الخارج عن مواقع ومفاعلات سرية يصل عددها إلى أكثر من سبعين
أمّا مفاعل «طهران» البحثي الذي يُستخدم لأغراض طبية، فقد أصبح محور الأزمة بين طهران والغرب في ما يتعلق بتأمين وقوده النووي (اليورانيوم المخصّب بدرجة 19.75 في المئة لإنتاج نظائر مشعّة تُستخدم للأغراض الطبية). يضمّ هذا الموقع أجهزة تم تفكيكها من مفاعل التخصيب السابق في شركة «كالاي» الكهربائية. ونقل تقرير عن مسؤول إيراني الشهر الماضي قوله إن إيران تحتاج ما يصل إلى 300 كيلوغرام من الوقود النووي لتلبية متطلبات مفاعل طهران لمدة عام ونصف عام.
لعلّ المحور الأهم على خريطة المواقع النووية الإيرانية، مفاعل «فرود» (قرب قم) جنوبي طهران في منطقة جبلية محصّنة. خضع أخيراً لتفتيش وكالة الطاقة، بعدما أبلغت طهران الوكالة بالمشروع في أيلول الماضي، قائلة إنها أخفته بسبب تهديدات إسرائيل بقصف مفاعلاتها النووية. وأعلنت أنه يتّسع لنحو 3000 جهاز طرد مركزي، وأن أمامها نحو 18 شهراً لبدء تشغيله.
وهناك مصنع «أردكان»، حيث ينقّى اليورانيوم الخام كي يصبح مُركّزاً. ويمكن أن ينتج المصنع من 60-70 طناً من اليورانيوم سنوياً. يقع هذا المصنع على بعد نحو 500 كيلومتر جنوبي غربي طهران، بالقرب من مدينة بندر عباس. وتقول تقارير استخبارية إن هذا المصنع الصغير ينتج الكعكة الصفراء سراً منذ عام 2006.
إلى جانب هذه المواقع، التي أصبحت معروفة للقاصي والداني، هناك مواقع ومفاعلات أخرى سرية، قد يصل عددها إلى أكثر من سبعين موقعاً، حسبما تتحدّث المعارضة الإيرانية في الخارج.
أما المناجم، فلعلّ أهمها منجم «ساغند»، الذي يحوي من اليورانيوم الخام نحو 1.5 مليون طن، بنقاوة تبلغ 553 غراماً من اليورانيوم في الطن الواحد. تم الكشف عن وجود خام اليورانيوم في هذا المنجم في عام 1985. وكان من المُزمع أن يبدأ العمل فيه مع بداية عام 2006، باستخدام 120 طناً من اليورانيوم الخام لإنتاج من 50 إلى 60 طن يورانيوم سنوياً.
كذلك، تملك إيران منجم «جيهان»، الذي تعتزم من خلاله إنتاج 24 طناً من الكعكة الصفراء، سنوياً.
يبقى هناك موقع «أناراك»، المُخصّص لتخزين المخلّفات النووية، إضافة إلى مجموعة من المواقع ومفاعلات البحوث الصغيرة الحجم في شمال شرق إيران، مثل «بوناب» و«رمسار». وتعمل هذه المفاعل في مجال البحوث الزراعية.
وإذ تعرب طهران عن نيتها بناء عشرة مفاعلات جديدة، تبدأ العمل بها خلال شهرين حسبما أعلن الرئيس نجاد الأسبوع الماضي، يجرى العمل على إنشاء أول منشأة محلية للطاقة للنووية في دارخوواين. مشروع أعلنت طهران في عام 2007 نيتها إنشاءه في إقليم خوزستان (جنوب غرب). وقالت إنه سيكون تحت إشراف هيئة الطاقة النووية الإيرانية وبيد خبراء إيرانيين فقط، وأن طاقته ستبلغ 360 ميغاوات.
ويبدو أن خريطة توزيع هذه المواقع والمفاعلات قد درست بدقّة، كي لا تتعرّض للقصف الجوي الإسرائيلي، أو الاستهداف البحري عبر السفن الغربية المرابطة في الخليج. فتمت حمايتها ببطاريات صواريخ، وتحصينها جيداً، وغالباً في مناطق جبلية تعصى على الاستهداف.


تخصيب اليورانيوم

تستخدم أجهزة الطرد المركزي لزيادة نسبة نظائر اليورانيوم 235 الصلب النقي. وتستخدم مفاعلات الماء الخفيف لإنتاج الكهرباء. وتتطلب هذه العملية أن يصل تركيز اليورانيوم 235 إلى ما بين 2.5 في المئة و3.5 في المئة.
وخلال عملية التخصيب، يتمّ ضخ خام اليورانيوم في الآلاف من أجهزة الطرد المركزي بسرعة تفوق سرعة الصوت لتنقيتها. ويتم تشغيل أجهزة الطرد المركزي في مجموعات تضم كل منها 164 جهازاً. وقد طوّرت إيران أجهزة طرد مركزي من طراز «إي آر - 2». وهو أسرع ما بين مرتين إلى ثلاث مرات من النماذج السابقة. وتقول طهران إنه بات لديها أكثر من 7000 جهاز طرد مركزي. والتخصيب هو عملية ترمي إلى زيادة نسبة اليورانيوم 235، النظير القابل للانشطار في خام اليورانيوم، ليصبح صالحاً للاستخدام كوقود، أو في صنع الأسلحة النووية.