ما الذي يحصل في الاتحاد الأوروبي الذي يفترض أنه أحدث كيان سياسي واقتصادي في العالم؟ فالأزمة المالية تحوّلت أزمة اقتصادية بنيوية، تقلّص معها الاستهلاك وانخفض الإنتاج. عملة «واحدة» لا تعتمدها كل دول الاتحاد. لا سياسة خارجية مركزية ولا جيش موحَّداً. حدود الوحدة باتت واضحة، ولكن بدايتها وتفاصيلها ما زالت غامضة. وتزداد الصورة قتامة عند احتساب عجز موازنات الحكومات للسنة المقبلة
حسن خليل
لو لم يعاصر العالم خافيير سولانا و«إنجازاته العظيمة»، لكان إعلان انتخاب رئيس للاتحاد الأوروبي ومنسّق عامّ لسياسته الخارجية خبراً مميّزاً. ولكن الفشل السياسي والعسكري المتواصل المترافق مع استمرار تقلّص النفوذ الأوروبي في العالم، ولا سيما في الشرق الأوسط، يعزز رأي المتشكّكين في تحوّل الاتحاد إلى «فدرالية أوروبية» تختزل السيادات المتعددة. عدم الانصهار في فدرالية قد يكون هو العائق أمام عدم ترجمة عناصر القوة للاتحاد كمجموعة في النفوذ. أوروبا اليوم كتلة بشرية من 500 مليون نسمة في 27 دولة يفوق حجم اقتصادها المجمّع اقتصاد الولايات المتحدة وحجم جيوشها مليوني عسكري، ولكن بفارق بسيط: لا تخضع لقرار مركزي، وفي السياسة تطغى «الأنانية السيادية» على «المصلحة الوحدوية». حتى في حرب البلقان الأوروبية، كانت الشابة العجوز عاجزة كما كانت في البوسنة ـــــ الهرسك التي لم تحل مشاكلها إلا بتعيين دافيد هولبروك المبعوث الأميركي. الاتحاد تخلّف في إنشاء دفاع مشترك، ولكنه فعّال في الناتو (الذي يعتمد على الولايات المتحدة ركيزة أساسية). يرفض الاتحاد انضمام تركيا إليه (ويستعملها في الناتو)، بينما يحضن دول البلطيق وقبرص.
ما الذي يحصل في القارة الأوروبية، ما جعل العديدين يتشكّكون في صلابة «الاتحاد»؟
كأن إعلان إعادة هيكلة ديون دبي العالمية لم يكن كافياً لزرع القلق في نفوس المستثمرين وجيوبهم في العالم من أدناه إلى أقصاه، ليترافق مع شبه إفلاس للقطاع المصرفي في إيرلندا لولا تدخّل الحكومة وإعلانها أن الوضع سليم، وإعادة شركات التصنيف النظر في تقويم المخاطرة على إسبانيا وبريطانيا، حتى ظهرت بوادر أزمة جديّة في مالية اليونان، ما فرض تساؤلات عن الواقع المالي للاتحاد الأوروبي، ومنه عن صلابة وحدة الموقف، إذ إن التجانس المالي والاقتصادي المرتبط بالأمن القومي اهتزّ نتيجة التباينات في مالية الدول وظهور التفاوت الكبير في أحجام الاقتصادات، وبالتالي النفوذ السياسي.
بدأت فكرة إنشاء الاتحاد الأوروبي أوائل التسعينيات فوراً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، الذي دفع العديدين إلى الشك في جدوى الأوّل بعد تفكّك الثاني. أولى الدول التي استنفرها الحدث كانت الولايات المتحدة ومن ورائها بريطانيا مارغريت تاتشر ومن بعدها جون ميجر. جورج سوروس اليهودي المجري الذي، بالمضاربة، سبّب انهيار الجنيه الإسترليني، وكاد يسبّب انهيار النظام المالي الوحدوي حينها، قال أخيراً إن أوروبا تريد إغراق لندن وإنهاءها كمركز مالي انتقاماً من مواقفها السابقة، ولأنها ما زالت ترى أن بريطانيا أكثر ميلاً إلى جذورها الإنكلوساكسونية منها إلى جغرافيتها الأوروبية، فجسّدت الفكرة عام 1993 لإنشاء الاتحاد بما فيه بريطانيا التي اشترطت للانضمام أن يقتصر على الاقتصاد والسياسة من دون اعتماد العملة الموحّدة. أُبرم اتفاق ماستريخت في نوفمبر 1993 ليكون العمود الأساسي لمبدأ الاتحاد (EC)، من جهة الاقتصاد والعملة وللتنسيق ضمن مفهوم السيادة في الشؤون الخارجية والداخلية لتوحيد المعايير والقوانين ما أمكن، التي أصبحت تتعلق بالعدل والجريمة واللجوء السياسي والهجرة والقانون المدني. أصبحت هي المكمّل لـEEC، أي المجموعة الاقتصادية الأوروبية سابقاً.
في المحصّلة، وُلد الاتحاد، ولكن بسبب تحفّظات بعض الدول، وخاصة بريطانيا، قُلّصت صلاحيات اللجنة السياسية والبرلمان ومحكمة العدل الأوروبية، ليصبح الحضور الأوروبي، سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، أشبه بما يروّج له البعض «من دون شخصية». أهمّ نتيجة للجهود كانت الاتفاق عام 1999 على الوحدة المالية الأوروبية EMU التي من رحمها وُلد «اليورو» دفترياً، وليبدأ التداول به عام 2001/ 2002.
من أصل دول الاتحاد السبع والعشرين ثمّة 16 دولة تعتمد اليورو، هي فرنسا وألمانيا واليونان وإيطاليا وإسبانيا وإيرلندا والبرتغال وهولندا والنمسا وبلجيكا واللوكسمبور وقبرص ومالطا وفنلندا وسلوفاكيا وسلوفينيا، وثلاث دول ترفض اليورو (بريطانيا والدنمارك والسويد) وأخرى ما زالت تحتاج إلى إصلاحات عضوية في نظامها المالي قبل الولوج في العملة الموحّدة (دول البلطيق: أستونيا ولاتفيا وليتوانيا، بلغاريا، رومانيا، بولونيا، التشيك والمجر).
مالياً، الدول الموقّعة جميعها على اتفاق ماستريخت التزمت نسباً معيّنة في موازناتها للتقريب بين الاقتصادات المختلفة أهمها: ألا تكون نسبة عجز الموازنة السنوية على الناتج القومي أكثر من 3%، وألا تتعدى نسبة الدين العام على الناتج 60%. ما الذي حصل؟

دعائم الاتحاد

الزلزال الذي أصاب الرأسمالية والعالم الرأسمالي أخيراً أظهر هشاشة بعض الدول مقابل صلابة دول أخرى. أوروبا تمرّ فعلاً بأزمات عدة، منها ما هو اجتماعي ومنها ما هو سياسي، وأهمها الأزمات البنيوية المالية والاقتصادية.
اجتماعياً، منذ أعوام والنخبة الأوروبية تحذّر من تقلّص عدد السكان الأصليين وازدياد اطّرادي لأعداد المهاجرين. لهذا كان البند المتعلق بالهجرة أساسياً في اتفاق الاتحاد. ولكن ما لم يحسبه العديدون هو أن توسُّع عضوية الاتحاد ليشمل أوروبا الشرقية زاد القلق في اتجاه آخر، حيث برز التفاوت بين المهارة ونسبة الدخل بين شقّي القارة، ما أدى إلى طوفان بشري من الجهة الشرقية إلى الغربية يؤدي الوظائف نفسها ولكن بنصف بدل الأجور. هذا الأمر أخذ يعود إلى الاعتدال بعد الركود الأخير، ولكنه لا يزال مصدر حساسيات معيّنة.
أمّا سياسياً، فبدءاً من الصراعات الأوروبية في البلقان مروراً بأزمة الصواريخ في بولونيا (التي أظهرت عجز القارة أمام الجبارين التقليديين) إلى الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي والعراق وأفغانستان وباكستان وغيرها، فإن الاتحاد الأوروبي، من خلال رئاسته وعبر منسّق السياسة الخارجية يبدو خالي الهيبة والفعالية، في الحد الأدنى يتسوّل دوراً له بدلاً من أن يفرضه. ينحدر سياسياً بعدما انحدر إنتاجياً، ما دفع الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى القول أخيراً إن أوروبا ضيّعت فرصتها أمام الزمن الآسيوي. 27 دولة لها عمودان أساسيان تختلّ من دونهما، هما ألمانيا وفرنسا، وبعض الأعمدة الداعمة كإيطاليا وإسبانيا وإيرلندا تعطي العملاقين بعض الطاقة لتدعيم الاتحاد. الدول الأخرى أكثرها «متعاونة».

الأزمة المالية

ما يحصل في الولايات المتحدة واليابان والاتحاد الأوروبي قد يدفع بعضهم إلى التهكّم والادّعاء أن لبنان قد يدعو قريباً لعقد مؤتمر «بيروت ـــــ 1» للبحث في مساعدة تلك الدول بالاستفادة من التجربة اللبنانية «للخروج من أزماتها المالية».
فمن المتوقع أن يصل حجم الدين العام في اليابان سنة 2010 إلى

جورج سوروس الذي سبّب انهيار الجنيه الإسترليني، قال إن أوروبا تريد إغراق لندن وإنهاءها كمركز مالي

الزلزال الذي أصاب العالم الرأسمالي أخيراً أظهر هشاشة بعض الدول وصلابة أخرى

ما يحصل في الاتحاد الأوروبي يدعو إلى التهكّم بأن لبنان سيعقد مؤتمر «بيروت ـــ 1» لمساعدته

ما يزيد على 200% من الناتج، وفي الولايات المتحدة إلى 100%. أما دول الاتحاد الأوروبي التي لم يعرف بعضها أرقاماً كهذه في السابق، فإن الدين العام المجمّع لديها سيصل سنة 2010 إلى 80% من الناتج الإجمالي، ما يناقض في الصميم جوهر اتفاق ماستريخت الذي حُدّدت نسبة الدين العام القصوى فيه بـ60%. الدول الصغيرة في الاتحاد فقط، كدول أوروبا الشرقية واللوكسمبور وقبرص، مديونيّتها تحت السيطرة (الجدول). مع التنويه بأن حساب الدين لا يشمل ضمانات بعض الدول (مثل إيرلندا) لودائع القطاع المصرفي أو التسهيلات المصرفية التي وفّرتها البنوك المركزية للمصارف لمنعها من الإفلاس وإلا لتضاعفت النسب خارج السيطرة.
صورة الأوضاع تزداد قتامة عند احتساب عجز موازنات الحكومات المتعددة للسنة المقبلة. فبينما يحدد اتفاق ماستريخت ألّا يتعدى العجز السنوي 3% من الناتج، سيكون العجز في معظم الدول فوق 5% ليصل في بريطانيا إلى 13% (كما في أميركا) وإسبانيا 9% والبرتغال 8% ولاتفيا 12% واليونان 12%، وأسوأها إيرلندا بنسبة 15%. جميعها وقعت ضحايا للأزمة المالية العالمية فاضطرت (الجدول) إلى ضخ كميات نقدية ضخمة في قطاعاتها المصرفية والإنتاجية. الأزمة المالية تحوّلت أزمة اقتصادية بنيوية، تقلّص معها الاستهلاك وانخفض الإنتاج (بريطانيا مهد الثورة الصناعية أصبح اقتصادها خدمات وودائع وسياحة). هذا بدوره أدى إلى معدلات بطالة لم يشهدها العالم الرأسمالي منذ الركود الكبير (الولايات المتحدة 10%، إسبانيا 14%، اليونان 12%). هذه التحولات السلبية جميعها كانت سيوفاً ذات حدود مرّة: تقلّص المداخيل الضريبية للدول وارتفاع مصاريف التقديمات الاجتماعية نتيجة البطالة. قدمت إيرلندا خلال سنة مساعدات وتسهيلات نقدية بلغت 175% من ناتجها القومي، بينما وصل الرقم في الدنمارك إلى 265%. نسب بعض الدول الأخرى كانت في حدود 50% كهولندا (جدول).

حيرة الأولويات

من باب المصادفة أن الدول الأوروبية الأسوأ وضعاً هي البرتغال وإيرلندا واليونان وإسبانيا. باللغة الإنكليزية P.I.G.S. أي الخنازير، وهذا دلالة على الوصف السلبي بين دول المجموعة التي ما زالت تقودها ألمانيا وفرنسا.
وقعت معظم الدول في حيرة بشأن تحديد الأولوية لدعم القطاع المصرفي أو لدعم الخزينة. جميعها ما زالت تحاول القيام بالجهدين معاً، لأن مصادر التمويل تختلف في الحالين.
في ما يتعلق بالقطاع المصرفي، تلجأ المصارف إلى البنوك المركزية المحلية للاقتراض، والأخيرة توفّر سيولة قصيرة المدى لها بضمان أصول غير قابلة للتسييل طويلة المدى. المصارف المركزية المحلية تلجأ هي الأخرى إلى البنك المركزي الأوروبي ECB كأنها فروع له. معظم المصارف أصبحت تعتمد إلى حد كبير على التسليف الذي تعطيها إيّاه البنوك المركزية كمصدر ربح رئيسي تعتمده من خلال شرائها سندات خزينة. بكلام آخر، فإن البنك المركزي الأوروبي، إضافة إلى ضخّ الحكومات أموالاً جديدة في المصارف، أصبح مصدراً رئيسياً لإعادة رسملتها. في أوروبا الشرقية تكبر الأزمة المصرفية لأن معظم المصارف الكبيرة فيها تمتلكه أوروبا الغربية، لكن حجم القروض بتحصيلها يفوق تريليون دولار.

في المقلب الآخر، فإن القطاع المصرفي الإيرلندي كاد ينهار بالكامل نتيجة السحوبات السريعة منه لولا تدخّل الحكومة وضمان جميع الودائع. المصارف الإسبانية التي بالغت في الإقراض العقاري، والمصارف اليونانية التي أسهمت بطريقة مستمرة على مدى أعوام في تمويل عجز الموازنة السنوي (هل نعرف بلداً آخر كذلك؟) أيضاً وقعت في أزمة سيولة. ظهرت في تلك الأزمة الأهمية الاستراتيجية لألمانيا وفرنسا.
مأزق تمويل عجز الحكومات أكثر تعقيداً من ضخ السيولة في المصارف. فبعد إنشاء الاتحاد الأوروبي واعتماد عملة واحدة هي اليورو، لم يعد في إمكان أي دولة طبع عملة وقت الحاجة (Printing) كما يحصل في بلدان السيادة النقدية. أي إن دول أوروبا الأعضاء تخلّت عن استقلاليتها النقدية وحافظت على سيادتها الوطنية، وهذا واقع فريد. في هذه الأحوال، لا يمكن الدول إلّا أن تموّل عجزها عن طريق الاقتراض من الأسواق المالية إذا سمحت لها الظروف (فرنسا وألمانيا)، أو اللجوء إلى البنك المركزي أو صندوق النقد، حسب الكوتا المتاحة فقط (وهذا ما فعلته رومانيا والمجر أخيراً). لكن المفارقة التي تميّز دول الاتحاد الأوروبي عن سائر دول العالم ذات العملة السيادية أنها لن تستفيد في أزمة كهذه من انخفاض سعر الصرف لعملتها كما كان يحصل عادة في الدول المدينة (البرازيل أعادت تزخيم اقتصادها عام 2001 بعد انخفاض الريال من 1.3 للدولار إلى 2.6) الذي يرفع من نسبة التصدير على نحو كبير ليعود ويسهم في إعادة دفع الاقتصاد بمجمله. الدول الأوروبية ترزح اليوم تحت مديونية ضخمة غير مسبوقة مع عملة قوية، وهذا ما يمثّل قمة التناقض المالي.

إلى أين

ربما كانت دول الاتحاد قد مرّت في أسوأ المراحل، ولكنّ نتيجة الأزمة لم تنتهِ. فحسب تقدير اللجنة الاقتصادية الأوروبية، لا يزال القطاع المصرفي هزيلاً ويحتاج إلى رسملة جديدة، وخصوصاً أنه قد يخسر ما بين 200 ـــــ 400 مليار يورو إضافية في الـ12 شهراً المقبلة. ارتفاع المخاطرة يرفع سعر الاقتراض والرأسمال، في الوقت الذي تحتاج فيه الحكومات والمصارف والشركات والأفراد إلى عكس ممارساتها للاقتراض المفرط.
مراحل عدة وتحديات جمّة تحوط دول الاتحاد في المستقبل المنظور: ارتفاع نسب البطالة مع ما يرافقها من انخفاض إيرادات الدول، ما يسهم في ازدياد قوي، إلى سنوات عديدة، في عجز الموازنات. ولكن ما يشجع أن حكومات دول الاتحاد تحكمها أحزاب جديّة غير فاسدة تعمل على خفض الإنفاق فوراً وزيادة الضرائب لرفع الإيرادات كي تعود بسرعة إلى حدّ أدنى من الاستقرار.
السؤال الأهم: هل في إمكان الاتحاد الأوروبي، في ضوء كل هذه المعطيات السلبية اقتصادياً ومالياً، أن يبقى متماسكاً في الأمور الاجتماعية، والأهم السياسية؟ أم أن أوروبا ستكون مثالاً على فشل العولمة الجشعة وتعود دولها إلى نظرية «أنا أولاً»؟