قضايا «التسليم الاستثنائي» أمام القضاء الدولي: انتهاكات واعترافات بالإكراه شهيرة سلّوم
مع انطلاق «الحرب على الإرهاب» وتزايد عدد معتقليها، شرّع العديد من الدول، العربية والشرق أوسطية، أبواب سجونها لانتزاع الاعترافات من المتهمين في إطار ما سُمي برنامج «التسليم الاستثنائي» (extraordinary rendition). ويقول ضابط الاستخبارات السابق، بوب باير، عن تطبيق البرنامج: «إذا أردت تحقيقاً جدياً، ترسل السجين إلى الأردن. إذا أردتهم أن يتعذبوا، ترسلهم إلى سوريا. إذا أردت أحدهم أن يختفي، ترسله إلى مصر».
لكن بعد أفول شبح الخوف، لجأ الذين تعرضوا لانتهاك حقوقهم المشرّعة في القانون الدولي واتفاقية جنيف ومعاهدة الأمم المتحدة المناهضة للتعذيب، وسواء من خرج بريئاً منهم ومن لا يزال في السجن، إلى القضاء الغربي بحثاً عن العدالة.
دعاوى أُقيمت وصدر الحكم بها لمصلحة المدّعين، وأخرى تتابع مسيرتها القضائية، وحالات تُبشر بولادة دعاوى جديدة على عناصر الاستخبارات الأميركية وكل من تعاون معها. وتعدّ قضية رجل الدين المصري، أسامة مصطفى حسن نصر، المعروف بأبو عمر، المقدّمة أمام القضاء الإيطالي أول اختبار لاستمرارية برنامج «التسليم الاستثنائي» «وأفضل نموذج» له. يصفها متخصصون بأنها «أكثر من محاكمة سياسية، إنها جزء من التاريخ الدولي. ستُدرّس كظاهرة يتسم بها عصرنا الحالي».
الاتهامات في القضية تطال 26 أميركياً، جميعهم إلا واحداً يعملون لدى «سي آي إيه»، ويحاكمون غيابياً، إضافة إلى 7 عناصر في وكالة الاستخبارات العسكرية الإيطالية. وهي تدور حول خطف أبو عمر في شباط 2003 في ميلانو، ونقله إلى قاعدة عسكرية جوية أميركية في إيطاليا، ثم إلى قاعدة في ألمانيا، قبل أن ينتهي أمره في مصر، حيث تعرّض للتعذيب على مدى أربع سنوات، ما سبب فقدان سمعه في أذن واحدة، ومعاناته خللاً في التوازن.
قضية مصطفى نصر نموذجاً: 25 عميل «سي آي إيه» تطالهم الاتهامات
وفي حزيران 2005، أصدر القاضي الإيطالي مذكرات توقيف بحق 22 عميلاً لـ«سي آي إيه» أو موظفين لديها، ثم صدرت مذكرات توقيف دوليّة بحقهم. لكن وزارة العدل لم تمرر طلب الاعتقال إلى السلطات الأميركية.
ويطالب الادعاء بتعويض أبو عمر بمبلغ يصل إلى 10 ملايين يورو (ما يعادل 15 مليون دولار)، وأحكام بالسجن تتراوح بين 10 و 13 عاماً. كذلك يطالب لزوجته مبلغ 5 ملايين يورو. وهذه الدعاوى لا تطال عملاء الاستخبارات، بل أيضاً أفراداً وشركات تعاونوا معهم. هناك دعوى قدمتها عالمة النفس الأميركية ترودي بوند ضد عالم النفس المتقاعد من الجيش الأميركي، العقيد لاري جيمز، الذي عمل مع «سي آي إيه» في اختراع أساليب التعذيب والإذلال الديني والجنسي.
ويتابع الاتحاد الأميركي للحريات المدنية أمام المحاكم الأميركية، قضية ضد شركة «Jeppesen DataPlan» للطائرات، نيابة عن 5 ضحايا لبرنامج «التسليم الاستثنائي». وتوجه تهم إلى الشركة بأنها تعاونت مع الـ«سي آي إيه» من خلال تقديم الطائرات وطاقمها لنقل المعتقلين.
والفضل الأساسي لتحريك تلك الدعوى يعود إلى منظمات المجتمع المدني، وهي تتابع القضايا بناءً على توكيل المدعين الذين تعرضوا لانتهاك حقوقهم، أو بالضغط على السلطات للتحقيق في انتهاكات وقعت. «هيومن رايتس ووتش» تطالب السلطات الليبية بمتابعة قضية مواطنها، محمد الفاخري، المعروف بابن الشيخ الليبي، الذي انتحر منذ أشهر في سجونها. الفاخري أرسلته الـ«سي آي إيه» إلى مصر، حيث تعرض للتعذيب وأعطى معلومات كاذبة عن وجود صلة بين تنظيم «القاعدة» والعراق، وهو ما استخدمه كولن باول خلال خطاب أمام الأمم المتحدة لشنّ الحرب على العراق. وسُلم إلى بلده الأم في بداية 2006.
في الولايات المتحدة، تعهد باراك أوباما وقف أساليب التعذيب وفتح تحقيقات بمخالفات الـ«سي آي إيه»، وعين وزير العدل إيريك هولدر مدعياً فدراليّاً للتحقيق في الإساءة إلى المعتقلين. لكنه عاد وأقرّ بأن عملاء الاستخبارات محميون ولا يمكن ملاحقتهم.
وفي ما يتعلق بالدولة الثالثة، التي أُرسل إليها المعتقلون، فلم تتخذ أيّ منها إجراءات لفتح تحقيق في الانتهاكات في سجونها، والأنكى أن غالبية المعلومات المنتزعة عبر التعذيب تبين أنها باطلة.


لبنــان لـم يتعــامل بالبــرنامجويؤكد مدير برنامج «الإرهاب ومكافحة الإرهاب» في منظمة «هيومن رايتس ووتش» في نيويورك، خوان مارينر، لـ«الأخبار»، أنه لا يعلم بأي حالة قامت فيها الـ«سي آي إيه» بإرسال المتهمين بالإرهاب إلى لبنان وفق برنامج «التسليم الاستثنائي»، وهو ما تؤكده أيضاً رئيسة هيئة الادعاء في «مركز الحقوق الدستورية» في نيويورك، ماريا لحود لـ«الأخبار».
ويشير ماريز إلى أن الدول الأساسيّة في ملف التعامل بالبرنامج كانت مصر والأردن، اللتين أدتا دوراً كبيراً في عملية تسلم وتسليم المشتبه فيهم بالإرهاب. لكن ذلك لا يعني أنه لم يحصل تعاون مع الاستخبارات الأميركية وأجهزة الأمن اللبنانية، في ما يتعلق بتبادل المعلومات، وحتى توقيف بعض الأشخاص بناءً على طلب أميركي أو دولة ثانية.
ويتحدث مدير مكتب «هيومان رايتس ووتش» في بيروت، نديم حوري، عن حالة مواطن لبناني يحمل الجنسية الكندية، اعتقلته السلطات اللبنانية وحققته معه لمدة خمسة أيام، بعدما طلبت أجهزة دولية ذلك للاشتباه في علاقته بالإرهاب. وفي حالة التسليم الاستثنائي لمواطنين لبنانيين، تجدر الإشارة إلى حالة ناجي حمدان، اللبناني الأميركي. حكم عليه القضاء الإماراتي أخيراً بالسجن لمدة 18 شهراً والإبعاد. ويقول إن السلطات الإماراتية اعتقلته وعذبته بإيعاز من مكتب التحقيقات الاتحادي الأميركي «أف بي آي». وفي السياق، تُعدُّ حالة ماهر عرار، المواطن السوري الكندي، نموذجية لانتهاكات «التسليم الاستثنائي». حكاية عرار بدأت حين أوقفته السلطات الأميركية في مطار نيويورك في أيلول 2002. كان يسافر عبره إلى كندا، وأُرسل إلى سوريا. وبعد إطلاقه، أُلّفت لجنة تحقيق كندية، فبرأته وأقرت له تعويضات تبلغ 10.5 ملايين دولار كندي. وفي الولايات المتحدة، يتابع «مجلس الحقوق الدستورية» قضية عرار، ويسعى إلى الحصول على تعويض جراء انتهاك حقوقه المدنية والدستورية على يد الإدارة الأميركية. غير أن محكمة فدرالية أميركية استبعدت، أمس، أن يتمكن عرار من مقاضاة الولايات المتحدة.