توازن رعب يغذّي نموّ عملاق آسيا ويمكّن العالم الجديد من الوقوف على رجليهحسن شقراني
في أكثر من مناسبة تكرّست استراتيجيّة العلاقات الأميركيّة ـــــ الصينيّة. نعوت كثيرة أطلقت عليها، لدرجة أنّ أحد المسؤولين السابقين في وزارة خارجيّة البلد الشيوعي وصفها، في حديث إلى شبكة «سي أن أن»، بأنّها «الأكثر أهميّة عالمياً»، وذلك على هامش زيارة الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى البلد الشرقي أخيراً.
العلاقة تعتمد على وقائع كثيرة تضمن مصالح الجانبين. عندما تتقارب الحلقات تجد التلاصق بين البيت الأبيض وقاعة الشعب، وعندما تتباعد يحكم الفتور الموقف ويعود الحديث عن الإمبرياليّة وعن الشرق المظلم والخالي من الديموقراطيّة.
أحد أوجه مقاربة العلاقة الأميركيّة ـــــ الصينيّة المعقّدة، هو الجانب الاقتصادي المالي، الذي لم ينفكّ يزداد تعقيداً منذ اندلاع الأزمة الاقتصاديّة الأخطر عالمياً منذ الحرب العالميّة الثانية في باحة العمّ سام.
هناك مبدأ أساسي تمّ الاحتكام إليه في صياغة الحجج الأميركيّة لدى تبرير اندلاع الأزمة الماليّة: سببها ليس فقط انعدام الرقابة وانفلات اللاعبين في الأسواق الماليّة والممارسات الخاطئة من جانب القطاعين العام والخاص، بل أيضاً «انعدام التوازن الدولي».
التوازن هنا ليس بالمعنى السياسي، بل على الصعيد المالي الاقتصادي. ففيما الولايات المتّحدة تعدّ منذ زمن بعيد «المستهلك الأوّل في العالم»، حيث إنّ أكثر من 65 في المئة من نشاطها الاقتصادي يقوم على الاستهلاك، تُصنّف الصين حالياً على أنّها معمل العالم الذي يراكم الاحتياطات الأجنبيّة ويؤمّن لكلّ زاوية في العالم احتياجاتها أو نسخة عن تلك الاحتياجات.
علاقة تجاريّة لمصلحة الصين نمت بنسبة 8247 في المئة خلال28 عاماً
وفي بداية عام 2009، كان حجم احتياطات بكين من العملات الأجنبيّة قد وصل إلى تريليوني دولار (ألفي مليار دولار). رقم خيالي يشير إلى الأداء التجاري المميّز للبلاد التي مضت على سكّة إصلاح ضيّقة، لكن فعّالة منذ عام 1979. ولكن لحظة، نصف ذلك المبلغ موظّف في سندات الخزينة وسندات أخرى أميركيّة!
وهذا الأمر يروق واشنطن نظراً لأنّها تحيي ثورتها الاستهلاكيّة الحديثة على الدين، على الرغم من وجود العديد من الاعتبارات الملحّة. وبالنسبة إلى الصين يعدّ الموضوع حساساً أيضاً. فرغم انّ إقراض بلد بحجم الولايات المتّحدة (أكبر اقتصاد عالمياً بناتج يصل إلى 15 تريليون دولار) مليء بالضمانات، غير أنّ أيّ تغيّر بسيط قد يعني كارثة حقيقيّة.
وعلى سبيل المثال، عندما قرّر الاحتياطي الفدرالي في آذار 2009 ضخّ تريليون دولار في الاقتصاد في إطار عمليّات «التسهيل الكمّي»، اصفرّت وجوه المسؤولين الماليّين الصينيّين: زيادة حجم الدولارات في السوق يعني تراجع قيمة العملة الخضراء، ما يعني تراجع قيمة الاستثمارات الشيوعيّة في الدين السيادي الأميركي.
هذا الاصفرار الممزوج بالغضب رُصد في السجالات التي دارت رحاها بين بكّين ووزير الخزانة الأميركي الجديد حينها، تيموثي غايثنر، الذي تحدّث عن «تلاعب» الصين بعملتها من أجل تحقيق مكاسب تجاريّة وترويج سلعها عالمياً.
واقتضى من بعدها «الاعتذار المبطّن»، وزار غايثنر ثالث أكبر اقتصاد عالمياً، وتوافق الطرفان مجدّداً على أنّ المصلحة المشتركة تفترض ليونة. إنّها مقوّمات التوازن في النهاية.
إرساء هذه الليونة في التعاطي تطلّب على أيّ حال سنوات طويلة من الكرّ والفرّ، ولا بدّ من المحافظة عليه في ظلّ توتّرات دوريّة تبدو منطقيّة في كثير من الأحيان، وخصوصاً على الصعيد الاقتصادي.
ففي ورقة معنونة بـ«هل تعدّ الصين تهديداً للولايات المتّحدة؟» موجّهة إلى أعضاء الكونغرس في عام 2007، يقول باحثو مركز خدمات الأبحاث المخصّص لمجلس الشيوخ «يُنظر إلى نجاح الصين على أنّه التعبير النسبي عن التراجع الأميركي».
فالبلد الآسيوي الذي انطلق في مسيرته التحديثيّة قبل 30 عاماً، يجد نفسه حالياً في مصاف البلدان النامية الرائدة، فيما الولايات المتّحدة تعاني من عقدة إعادة توليف نظامها الرأسمالي الذي تآكل.
ولكن حتّى في ظلّ هذا التفاوت يجد البلدان نفسيهما أكثر التصاقاً وصداقة. فالتبادل التجاري بين البلدين على سبيل المثال ارتفع من 4.9 مليارات دولار في عام 1980 إلى 409 مليارات دولار في عام 2008. أي أنّ نسبة النموّ بلغت 8247 في المئة. وفي هذه العلاقة عجز لمصلحة الشيوعيّين بقيمة 266 مليار دولار.
مسائل أخرى تقوّم في إطار التفاوت الاقتصادي، فالإغراق السلعي الصيني الذي يكاد يجعل معايير الإنتاج الصينيّة عالميّة الطابع يدفع بورثة العمّ سام إلى الحمائيّة الاقتصاديّة... الخوف الاقتصادي.
كذلك فإنّ ارتباط بكّين بالدين السيادي الأميركي، الذي يموّل خطّة التحفيز الاقتصادي، يدفع بالمدقّقين الماليّين والاقتصاديّين الشيوعيّين إلى تفحّص كل إجراءات الإنقاذ الأميركيّة للتأكّد من أنّ استثماراتهم بخير.
وهذا تحديداً ما يجعل العلاقة الاقتصاديّة ـــــ الماليّة بين البلدين شرّاً لا بدّ منه. توازن رعب يغذّي نموّ عملاق آسيا ويمكّن العالم الجديد من الوقوف على رجليه.