باريس مدينة الأنوار. اسم يُتداول في كل مرّة تُذكر فيها العاصمة الفرنسية، غير أن لمس معنى هذه العبارة أمر مختلف تماماً. الأنوار شيء ثانوي في هذه المدينة الساحرة الآسرة للزائر لدى إحساسه بثقل المكان التاريخي والحضاري
حسام كنفاني
مع الاقتراب بالطائرة من مطار شارل ديغول الدولي، يبدأ الشعور بالحماسة للخروج إلى الأراضي الفرنسية، ولا سيما إذا كانت هذه زيارتك الأولى إلى باريس خصوصاً، وأوروبا عموماً. صور كثيرة تبدأ بالمرور في الذهن، يجري استحضارها من مئات المشاهد المخزّنة في الذاكرة، التي تمنّي النفس برؤيتها مباشرةً. الإطلالة من نافذة الطائرة تعطي إشارة إلى ما ينتظر الزائر؛ مساحات خضراء شاسعة تزيّنها منازل تقليديّة، وألسنة مائية تخترق الأراضي الزراعية. الصورة بالتأكيد ليست لباريس، لكنها للأراضي المحيطة بالعاصمة، حيث يقع المطار الدولي، الذي يبعد عن المدينة نحو 60 كيلومتراً.
من المطار إلى أطراف العاصمة الفرنسية تحاصرك عشرات الأسئلة الفضوليّة عن المسمّى والكنية. لماذا «باريس» ولماذا «مدينة الأنوار»؟ الإجابة تأتيك سهلة مع ابتسامة: باريس ترجع إلى اسم قبيلة من القبائل الأوروبيّة القديمة، التي كانت تسمّى الكالت، استوطنت المنطقة وكانت تدعى باريسي، ومنها جاء الاسم. أما مسمّى الأنوار فله قصة قديمة أيضاً تعود إلى عام 1828، لأن باريس كانت أوّل مدينة في أوروبا تضاء شوارعها بمصابيح الكاز.
من أسئلة الاستفسار تنتقل إلى المشاهدات الأولى مع اقتراب السيارة إلى مداخل باريس. المراقبة تترافق مع شرح من صديق مرافق بأن المدينة مقسّمة إدارياً بطريقة حلزونية إلى 20 دائرة، تبدأ من الأولى في الوسط إلى العشرين عند الأطراف، ومحاطة بطريق دائري يفصلها عن الضواحي الهادئة والمتوتّرة.
الانطباع الأول عن العاصمة الفرنسية، لدى دخول السيارة إليها، يقوم على الشجر، الذي تشعر بأنه يكاد يغطي المدينة ويحجب عنها أشعة الشمس. غابات مصغّرة تصطفّ عن يمين الطريق ويساره تظلّل الزائر وتمنحه سكينة الريف وحضارة المدن. خليط من المشاعر تطرده إطلالات المباني داخل باريس. لا مكان للأبراج في الداخل، لا مكان للاستطالة في البنيان، مجرّد ارتفاعات متوسطة لبنيان كان شاهداً على سنوات وسنوات من تاريخ المدينة. معالم التاريخ واضحة، ليست قائمة فقط على المنحوتات الأثرية، بل حتى على مداخل بعض المنازل. فالأبواب العملاقة تحمل إشارات الغاية التي أقيمت من أجلها في القرون السابقة، حين كانت الأحصنة والعربات تبيت في ساحات المنازل، ولا تُركن خارجها كما هي الحال اليوم.
الشرح المرافق للمشاهدة يشير إلى إطلالة عمران مئات السنين على مشاهد حداثة العاصمة الفرنسية؛ الطرق، السيارات، المتاجر، المقاهي والمطاعم. كل هذه المظاهر لا تستطيع أن تنفي عن المدينة طابعها التراثي والأثري. طابع طاغٍ على ما دونه، فلا أسماء المتاجر العالمية ولا الفنادق الفخمة، تستطيع أن تُزيح النظر عن زخرفة على هذا الجدار، أو منحوتة في هذه الساحة.
المحطة الأولى أمام معالم باريس كانت على ضفاف نهر السين في الدائرة الخامسة. ضفاف هذا النهر الكبير لها نصيب من التاريخ. تاريخ متنوّع، حديث وقديم. حلقات صدئة لربط السفن لا تزال ظاهرة على جدران أقدم مرفأ نهري فرنسي، وإشارات قديمة إلى قياس ارتفاع منسوب المياه ممتدّة على ضفاف السين، إضافةً إلى بعض القلاع التي كانت تُستخدم سجوناً.

غابات مصغّرة تصطفّ عن يمين الطريق ويساره تظلّل الزائر وتمنحه سكينة الريف وحضارة المدن
إلى جانب هذه المعالم، تقف “بسطات” بيع الكتب القديمة. “بسطات” ممتدّة على رصيف الطريق العام الموازي للسين، وتحوي كتباً نادرة، لم تعد متوافرة في المكتبات. أصحابها يسمَّون «حرّاس الثقافة الفرنسية»، وهم مقصودون من كل شرائح المجتمع. وقد صودف لدى مرورنا من أمام إحدى “البسطات” أن كانت نائبة في البرلمان الفرنسي تقوم «بتسّوقها المعتاد للكتب»، كما يقول أحد أصحاب «المكتبات».
من الرصيف إلى الضفاف، مسافة أمتار تنقل الزائر إلى أجواء أخرى. أجواء زحام وصخب ومرح وحب. إنه يوم الأحد على السين، موعد السوق الأسبوعي لسكان مقاطعات فرنسا. ففي كل أسبوع يتقاطر سكان منطقة معيّنة إلى أحد أرصفة السين لعرض منتجاتها ومأكولاتهم التقليدية، التي تتقاطع كلها عند النبيذ والجبن.
مئات الباريسيّين والسيّاح يفترشون أرض الرصيف للاستفادة من السوق، والاستمتاع بشمس أيلول الدافئة. مجموعات موزّعة هنا وهناك، وعشّاق لا يتوانون عن تبادل القبل على مرأى من الجميع من دون أن يثيروا فضول الجالسين من حولهم. الأمر طبيعي جداً في المدن المنعتقة من ثقافات الكبت.
مشاهد كثيرة آسرة على السين، يحتار الزائر للمرة الأولى على ماذا يركّز، وأين يخفي اندهاشه وأين يُظهره؛ نساء جميلات وموسيقى تقليدية تنطلق من هذا الجمع أو ذاك، وزجاجات من النبيذ مع أطباق الجبن الفرنسيّ الفاخر منتشرة على حافات الميناء القديم. مشاهد يقطعها صديقي الذي لاحظ دهشتي بالقول «إنها باريس يا عزيزي، مدينة الحب والنبيذ والجبن».


قدّيس الفقراء بـ 23 يورو

لبنان حاضر في باريس، بسياسته ومواطنيه المنتشرين في بلاد الاغتراب. فحالما تُعرف بأنك قادم حديثاً من بيروت تنهال عليك الأسئلة عن الوضع هناك، وعن الحكومة والأطراف السياسيّين، والحلول المنتظرة.
أسئلة قد تأتي من صديق تعرفه، أو رجل تتعرّف إليه، أو من غريب يسمعك مصادفةً تتحدث باللهجة اللبنانيّة. هذا ما حدث بالضبط عند محطة الاستراحة الأولى في باريس. كانت الاستراحة في أحد المقاهي في بولفار سان جيرمان. فرصة لالتقاط الأنفاس من عناء السفر والتحدّث عبر الهاتف إلى بعض الأصدقاء. الحديث باللهجة اللبنانية عن الوصول جذب أحد المارّة ليسأل: «جئت الآن من بيروت؟». لدى سماع إجابة «نعم» انفرجت أسارير الرجل وجذب كرسّياً ليجلس إلى الطاولة، ويبدأ بأسئلته عن وضع الناس والبلد والسياسة والعُقد والتدخّلات الإقليمية. كم كبيرة هي الأسئلة التي لا أحد يملك إجابتها المطلقة، لكن الرجل يكتفي ببعض الإجابات التقليدية ليحملها بعدما أفرغ ما لديه من هواجس.
إضافةً إلى السياسة، هناك «الفهلوة» اللبنانية. فعلى بُعد أمتار من كاتدرائية نوتردام، تقبع كنيسة «سان جوليان قديس الفقراء» (الصورة). الكنيسة معروفة بأنها مقصد اللبنانيّين في باريس، وفيها يُحيون غالبية مناسباتهم الدينية، حتى إنها شهدت حفل تأبين الأستاذ الراحل جوزيف سماحة.
ورغم أنها تحمل اسم الفقراء، فإنها يوم الأحد في العشرين من أيلول الماضي كانت ممنوعة عليهم. فالدخول إليها كان يتطلّب دفع مبلغ 23 يورو. مبلغ كبير نسبيّاً على الفقراء الساعين إلى شفاعة قدّيسهم.